لا تكتسب هذه الرواية- التي صدرت طبعتها الثانية مؤخراً- أهميتها فحسب من كون الأجهزة الأمنية تعتقل - وحتي الآن- مؤلفها السيناوي «مسعد أبو الفجر» لما يقترب من عام ونصف العام دون تهمة أو محاكمة، وإنما من أنها -تقريبا- أول عمل روائي مكتوب- غير شفهي- يسجل ملمحا من حياة بدو سيناء وعالمهم الخاص الذي ربما يكون ملغزا لكثيرين من أبناء الوطن الواحد أنفسهم. تنساب الكتابة في «طلعة البدن» دون التزام بأي تقاليد سردية معتادة، فقط هناك استرسال ناعم وشائق في الحكي، وعدد ضخم من الشخصيات الرئيسية والفرعية، وهذا هو التحدي الأول الذي يواجه قارئ «طلعة البدن»، أما التحدي الثاني فهو أنها تحتوي علي كم كبير من مفردات البدو في سيناء، وهي مفردات قد تبدو غير مفهومة أحيانا لغير العالمين بها، لكن ذلك لا يعني مطلقا أن الرواية معقدة أو غامضة، وإنما لعل هذين التحديين اللذين يواجهما القارئ ، هما ما يجعلان للرواية خصوصية واضحة وطعماً مختلفاً عن السائد. علي أن نفس «أبو فجر» الحكاء يمسك في تلابيب القارئ منذ السطور الأولي يكتب في الصفحات المبكرة «بعيد الفجر، وفي الوقت اللي ما تعرف فيه الكلب من الذيب، أيقظتني.. أحكمت ربط الغترة علي رأسي، وتناولتني من ذراعي، هابطة إلي القرية. تسللنا بين البيوت، حتي وصلنا بيتا له باب خشبي قديم، علي أحد ألواحه أثر كف من الدم. أوقفتني قدامه، وكأنها تريد أن تقرعه، ثم رفعت غترتي عن جبهتي.أمسكت برأسي، وبغتة لطمت جبهتي بالباب، صرخت.. تحسست وجهي، ولما تأكدت أن الدم سال من قورتي، ارتدت عائدة، وتركت وراءها نداء عاليا، منطلقا من داخل الدار: مين؟» هذه لغة شائقة تخطف القارئ - إن جاز التعبير- وتدخله في معمعة الحكي، الذي يسترسل فيه أبو فجر معتمدا بشكل أساسي علي أكثر من شخصية مثل «عودة» و«ربيع» و"براك"، و"عساف" وكلهم بدو و«توماس» و«غاليت»، ولعلك لاحظت أن جاليت مكتوبة بحرف الغين بلهجة أهل الشام الذي قد يبدو مدهشا أن نعرف أنهم ينطقون الجيم غين، فيما لا نعرف أن بدو سيناء ينطقونها كذلك ونحن أهل بلد واحد! وإذا غابت العقدة الأساسية عن الرواية، فإن القارئ يجد نفسه مشتبكا مع مصائر أبطالها وقد طاله الكثير من رمل سيناء، متابعا مأساة أهالينا في سيناء سواء مع الجيش الإسرائيلي أثناء الاحتلال، أو في التعامل الحكومي العنيف والشاذ معهم بعدما عادت سيناء لينا دون أن يعود أهلها لنا، ولعل هذا ما جعل الرواية تبدو مفعمة بالغضب، الغضب من كل شيء، من وحشية الاحتلال،و إهمال الحكومة وتعامل «الفلاحين» مع البدو، نظرة السائحين إلي البدو كرمزي فلكوري وفحل يطفئ الشهوة، فخرجت اللغة حادة وقاسية في كثير من الأحيان لكنها تحمل كثيراً من الحقيقة مثل تلك السطور التي تعقد مقارنة بين البدوي والفلاح «الأول يختار قمة كثيب، ويقيم فوقها خيمته، ويعلق عليها الراية البيضاء، ثم يشعل النار أمام الخيمة، بينما يأتي الثاني جوار جدول ويقيم عشته، علي حافة الجدول، يشرع في إنبات حياته. الأول مستعد لتقديم حياته ثمنا لحريته. بينما الثاني مستعد لتقديم حريته ثمنا لحياته. ومن هذه المنطقة بالضبط يتم اصطياد الثاني.. كيف؟ يتوالي الجباة، وتتصاعد الضرائب، والفلاح يقابل كل هذا التصاعد، بقدرة عجيبة علي الصبر والانحناء.. إلي أن يأتي جاب غبي، وتصير الجباية أكبر من الإنتاج، حينها يشعر الفلاح، أن الخطر يطال الحياة نفسها، عند هذه اللحظة بالضبط تشتعل جهنم». يتشابك الزمن والمكان في «طلعة البدن» وتتجاور مصطلحات تعبر عن مخترعات حديثة كاللاب توب مثلا مع ذكريات عن حروب 56 و67، وتصل الأحداث إلي ذروتها عندما تحتجز أجهزة الأمن البدوي «عودة» دون تهمة واضحة كالمعتاد، فقط أراد ضابط أن يفعل ذلك ففعله - هل كان أبو فجر يتنبأ بما سيحدث له لاحقا؟!-، ولما يتأزم الموقف لا يجد زميله «عساف» سوي أن يصطنع حادثة اختطاف للرومانية الحسناء «غاليت» فيكبلها ويصورها وفي خلفيتها جبل «طلع البدن» - الذي رآه الأجداد أشبه بجسد أنثوي يخرج من ثوبه فأطلقوا عليه هذا الاسم الأدبي بامتياز حتي أنه صار عنوانا لرواية مهمة - ويكتب بصحبة الأصدقاء بيانا يعلنون فيه اختطافهم ل «غاليت» وأنهم لن يفرجوا عنها إلا إذا أفرجوا عن رفيقهم «عودة» من السجن لعل هذ النصر يجعلهم ينعتقون من سجنهم الأكبر في سيناء المحررة، ولا تحسم النهاية المفتوحة للرواية الأمر، لكن الشواهد توحي بأن «عودة» سيظل حتما في السجن طالما بقي إلي جواره مؤلف الرواية «مسعد أبو فجر».