خمس كلمات تستطيع الشخصية المصرية البسيطة بكل عبقريتها أن تلخص فيهم مصائر الأشياء فكل الحوادث الى انتهاء وكل الأعراض الى زوال وكل الأعمار الى فناء
(2) لازلت أذكر الشارع ... الساعة ... نوع سيارة والدها ... نظرتها من الزجاج الخلفى وهي تبتعد ... يدها الرقيقة وهى تلوح بالوداع ... لازلت أذكر تلك اللحظة التى أحسست فيها أن الزمن توقف وأن الحياة تجمدت لكى تسمح بالتقاط صورة عالية النقاء لذلك المراهق وهو ينظر الى سيارة حبيبته تبتعد للمرة التى اعتقدها الأخيرة.
مر على هذه اللحظة أكثر من عشر سنوات ... بالتأكيد تزوجت ... صارت أما لطفل أو أكثر ... كبرت أنا ... صرت طبيبا ... أحببت غيرها ... لكن شيئا ما بقى.
شيء يظهر فى ابتسامة على طرف الشفاه حين تمر فى نفس المكان .. فى نظرة متأملة لسيارة تشبه سيارة الوداع ... فى حب خفى تستشعره تجاه اسمها وميل لا ارادى تجاه من تحمله.
المهم أن شيئا ما يبقى ... انتهى الحب وانتهت العلاقة وانتهت المعرفة أصلا ... لكن شيئا ما بقى.
هذا بالضبط ما أحب أن أوضحه فى حالتنا المصرية الراهنة فى حدود ما أشعر به وأفهمه.
لا تشرق شمس مصر الان الا على تشويه متعمد ومقصود عن طريق تسريب أو إشاعة أو نحو ذلك لأشخاص ممن يحسبون على ثورة الخامس والعشرين من يناير
البرادعى : خائن ... عميل ... ملحد أو أخوان _ لا تسألنى كيف ولا تسأل من يتهمه بالتهمتين ... المهم أن كلتاهما على لائحة الاتهام _
عمرو حمزاوى ... طابور خامس ،مصطفى النجار ... سمسار ومتامر، أحمد ماهر .. أسماء محفوظ ... أحمد دومة ... علاء عبد الفتاح ... منى سيف ... بلال فضل ... باسم يوسف ... وأخيرا وائل غنيم
لست محاميا عن أحد ولست بصدد مناقشة تهمة أو تهم أى من هؤلاء لكننى أجد نفسي أمام العديد من التساؤلات
هل فجأة أصبح كل من ينتمى الى ثورة يناير محل شك واتهام ومطالب دائما بالدفاع عن نفسه واثبات ولائه ؟
أين ذهبت نغمة الشباب الطاهر النقى البرىء المحب لوطنه الذي كان دائما فوق الشبهات ونعيب عليه فقط حماسه الزائد
أى تسريبات تلك التى استهدفت معسكرا بعينه وظهرت فى توقيت واحد مفاجئ ؟
لماذا لم نجد تسريبا واحدا يوضح من قتل الثوار ؟ من سرق الوطن ؟ من نهب ثرواته ؟ من أتلف أدلة الاتهام ؟ من فجر مديريات الأمن؟
لماذا ظل المجرمون الحقيقيون دائما بعيدا عن أيدى القانون وغير القانون ؟
لماذا بعد ثلاثة أعوام فقط من ثورة مجيدة يقف شبابها فى أقفاص الاتهام ويقبع عجائز النظام القذر الذى قامت ضده على منصات التكريم والاحتفاء ليدعون الى التصويت بنعم على الدستور ؟
لا أؤمن بقدسية حدث أو شخص خارج العقائد والايمانيات لكننى فقط توقعت قدرا أكبر من الاحترام لثورة عظيمة أبهرت العالم فقدنا فيها أرواحا ودماءا وأعينا وأعضاءا وممتلكات فقط لكى نربح الأحلام
لماذا أرى لافتات أعضاء الحزب الوطنى فى الشوارع تدعونا للتصويت بنعم ؟
لماذا يقول المتحدث الرسمى باسم مجلس الوزراء عن حسين سالم أنه رجل أعمال شريف بينما يتهم وائل غنيم فى وطنيته وانتمائه ؟
كلمة " لماذا " أصبحت أكثر أدوات الاستفهام سخافة فى نظرى
أخشى أن الاجابة على كل الأسئلة هى الرغبة فى تغيير الصورة الذهنية التى تكونت عن الثورة فى عقول الناس وبدلا من السؤال الوجودى السخيف الذي يردده الاخوان بمناسبة ومن غير مناسبة عن الثلاثين من يونيو " ثورة ولا انقلاب ؟ " يبدأ الناس فى التساؤل عن الخامس والعشرين من يناير " ثورة ولا مؤامرة " " ثورة شعب أم أخوان " " ثورة نقية ولا بها شوائب دعم خارجى "
يدخل الشك فى القلوب .. يعلو منسوبه مع كل تسريب جديد حتى لو كان لا يعنى شيئا ... مع كل شائعة حتى لو حملت فى طياتها أدلة تكذيبها وهكذا تغدو هناك ثورة وحيدة على الساحة هى التى تلتهب الأيدى بالتصفيق لها وتلهج الألسنة باسم بطلها الأوحد
سيفلح هذا مع كثيرين ... ربما هؤلاء الذين لم ينزلوا الا لحاقا بموكب الاحتفال ... هؤلاء الذين لم تعنيهم يوما القضية بقدر ماعنتهم صورة مع الدبابة للبروفايل لكنه سيعجز مع البعض ... هؤلاء " البعض " قد يكونو قليلين بأعدادهم ... لكنهم كثيرين بإيمانهم
هؤلاء الذين ولودوا من جديد يوم الثلاثاء الموافق خمسة وعشرين من يناير لعام ألفين وأحدى عشر بعد الميلاد
هؤلاء الذين عرفوا رائحة الغاز المسيل للدموع وهو يسحق أجهزتهم التنفسية ... هؤلاء الذين افترشوا التحرير دون أن يعلموا أصلا معنى كلمة اعتصام ... هؤلاء الذين حملوا أرواحهم على أكفهم فى كل معارك الثورة ... هؤلاء الذين كانوا يبصرون فى ظلام محمد محمود على ضوء شرارات إطلاق الخرطوش والحى ... هؤلاء الذين هتفوا للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية قبل أن تلوكهم الأفواه فى برامج التوك شو ... هؤلاء الذين كانوا يقفون كالأسود أمام النار والجنود ويبكون من التأثر متحلقين حول خشب التدفئة وهو يغنون مع الشيخ إمام " مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر ؟؟ "
هؤلاء الذينعلمتهم ثورة يناير كل مشاعر الإنسانية من حب وتضحية وإصرار واعتداد وشجاعة وخوف وتردد وترقب وقلق وغضب وإيمان ويقين
هؤلاء ستبقى في قلوبهم ثورة الخامس والعشرين من يناير الى الأبد محاطة بكل آيات التقدير والاحترام والحب مهما كثر القيل والقال هؤلاء سيحتفظون فى داخلهم دائما بركن خاص وحنين من طراز فريد الى الثورة الحقيقية التى جاءت بهم وجاؤوا بها الى الحياة
وعلى هؤلاء يكون التعويل
عاشت مصر وتحيا الثورة
(3)
فى ذكراكم الثالثة
تحية خجلى..وابتسامة شاحبة وسط الدموع...ورأس مطأطأ لأن صاحبه لا يقدر على مواجهة أصحاب الدين...وعقل يسترجع أياما كنتم فيها نور الدنيا وشذاها...ودعوة من القلب أن نلحق بكم غير مبددين ولا مفتونين
صورة تعبيرية عن رفاق الميدان الذين أنهكتهم الدنيا من بعدكم فنسوا أنفسهم لكنهم أبدا لم ينسوكم