أين الاكتشافات المصرية لعلاج فيروس «سى» والسرطان والبلهارسيا والإيدز؟ الكارثة الحقيقية هى الاستهانة بالضمانات الضرورية وعدم محاسبة من يتحايل على القوانين
لا يمكننا القبول بمبدأ «الوسيلة الخاطئة» لتحقيق هدف إيجابى
إعداد: أ.د.محمد أشرف البيومى - أ.د.سهير مرسى
نشرت إحدى الصحف اليومية عدة تصريحات ومعلومات حول موضوع الدواء الجديد لمرض «فيروس سى»، وجب التعليق عليها بشكل متكامل، خصوصا أن نحو 11 مليون مواطن مصرى مصاب بالمرض. ففى 20 ديسمبر جاء العنوان المثير «مفاجأة: مصر رفضت عرضا من شينازى مكتشف علاج فيروس سى للمشاركة فى الأبحاث».
وعند قراءة الخبر يتبين أن المطلوب كان إجراء اختبار للدواء على مرضى مصريين مصابين بالجيل الرابع من الفيروس، لا المشاركة فى الأبحاث التى أجريت فى الخارج من قبل فريق علمى مكون من 18 مشاركا أساسيا إما فى اكتشاف الدواء وإما تحضيره وإما اختبار فاعليته أو تسويقه، وترتيب شينازى الثامن، كما أنه صاحب شركة دوائية هو الشريك الأساسى فيها. كما أن الصحيفة اتهمت وزيرة البحث العلمى السابقة دكتورة نادية زخارى بأنها «أضاعت فرصة الحصول عليه بسعر زهيد». فهل يصدق أحد أن إجراء مثل هذه الاختبارات كان سيؤدى لحصول ملايين المرضى المصريين على الدواء بسعر زهيد جدا؟! وفى ديسمبر 23 جاء عنوان مثير آخر «مفاجأة جديدة: طبيب مصرى ساعد مكتشف علاج فيروس سى فى التجارب». فهل يعنى هذا أن المرضى المصريين سيحصلون على الدواء بأسعار «زهيدة جدا» ما دام قد حقق شينازى هدفه، أم أن عرضه السابق للوزيرة أصبح فى طى النسيان؟! والمثير للدهشة أن الخبر المنشور الذى سارع باتهام الوزيرة بالتقصير لم يعترض على الأسلوب غير القانونى الذى سلكه شينازى بمعاونة طبيب مصرى لم يعلن عن اسمه.
إن ضرب بالقانون عرض الحائط هو أحد أبعاد الكارثة الحقيقية، والبعد الآخر هو سلوك شينازى الذى يعتبر اعتداء على السيادة الوطنية، والذى لا يجرؤ القيام بمثله فى الولاياتالمتحدة، وإلا عرض نفسه لعقوبات شديدة. إننا نطالب وزيرة الصحة للتحقق مما إذا كان هناك تجاوز قانونى فى هذا الشأن. لا يمكننا القبول بمبدأ إن الوسيلة الخاطئة لتحقيق هدف إيجابى أمر صحيح، بل إن هذا المنهج مدخل للفوضى والفساد. ذكرت الصحيفة بأن كثيرين «وصفوا ما حدث بالكارثة وطالبوا بمحاسبة المقصرين»، هكذا أصبحت الأمور رأسا على عقب فبدلا من أن نهنئ الوزيرة نعاتبها، لأنها التزمت بالقانون وضرورة اتباع البروتوكولات المتعارف عليها، والمتعلقة بالبحوث الإكلينيكية التى تنص عليها منظمة الصحة العالمية، والتى وضعت خصيصا لحماية المرضى من جشع شركات الدواء، التى تسعى إلى الكسب الهائل والتى تخاطر كثيرا بحقوق المرضى.
فى 21 ديسمبر ذكر الدكتور المتينى بنفس الصحيفة «أن ما حدث هبل وتخلف وكارثة، وكان ينبغى الموافقة على إجراء الأبحاث يقصد اختبار الدواء على المرضى لصالح المرضى، لأنهم كانوا سيحصلون على الدواء مجانا». لا أدرى ما إذا كان يقصد ملايين المرضى أم العينة المحدودة التى ستخضع للاختبارات؟ أكد الدكتور المتينى أن «هناك كثيرا من الأبحاث الإكلينيكية والتجارب يتم رفضها بدعوى أن المواطنين المصريين غلابة، وأنهم حقل تجارب، وهو للأسف دغدغة للمشاعر وسبب تخلفنا عن العالم، خصوصا فى مجال البحث العلمى الذى تأخرنا فيه كثيرا». أما بعد يومين فقط نبه د.المتينى نفسه فى نفس الصحيفة فى 23 ديسمبر «بضرورة حرية إجراء التجارب دون أن يكون المرضى المصريون حقل تجارب لكل من هب ودب، ولكن فى حدود القواعد والمعايير الدولية وبعد موافقة المريض» أليس هذا ما كانت تصر عليه الوزيرة؟ ألا يمثل هذا تناقضا صارخا مع ما قاله د.المتينى من قبل؟
أظن أنه من الواضح أن الكارثة الحقيقية هى الاستهانة بالضمانات الضرورية، وأن الكارثة المؤلمة هى عدم محاسبة من يتحايل على القوانين.
لقد كتبنا عبر ثلاثة عقود ماضية عديدا من المقالات حول المبيدات المسرطنة والضارة بالصحة، مثل الجاليكرون والليبتوفوس المستوردة فى بدايات ما سمى بالانفتاح الاقتصادى، علما بأن هذه المبيدات ممنوع استخدامها فى الخارج، ووسائل منع حمل ضارة بالصحة مثل «الديبوبريفيرا» و«النوربلانت» و«الدالكون شيلد»، ومحاولات دفن مواد مشعة، وفضلات صناعية خطيرة فى الصحراء الغربية، رغم أنه ممنوع دفنها فى أوروبا، ومواد غذائية ملوثة إشعاعيا بعد حادثة تشرنوبل، بالإضافة إلى استخدام فلاحين فى البحيرة والفيوم كحيوانات تجارب، لمعرفة مدى كفاءة أحد أنواع المولاسكيسايدس التى تقتل قواقع البلهارسيا، وكانت هذه الدراسة عام 1991. قامت بها مؤسسات أمريكية بموافقة وتسهيلات وزارة الصحة التى زعمت أنها لن تعرض مصريين لهذه التجارب. كانت الرقابة على المشروع مسؤولية الجانب الأمريكى. وجاء هذا النشاط تحت شعار «التعاون العلمى». من هذا المنطلق أكدنا فى السابق ونصر على تأكيد ضرورة إخضاع أى مشروع علمى أو دراسة إكلينيكية للمناقشة والتقييم الشامل قبل القبول والتصفيق دون دراية أو معرفة بالتفاصيل والأهداف، كما يحدث الآن من قبل الغارقين فى ثقافة التبعية بأبعادها المختلفة بما فى ذلك التبعية فى المجال العلمى.
يتمثل جانب آخر من المأساة فى غياب حد أدنى من الثقافة العلمية فى إعلامنا بأنواعه، والاستهانة بقدرة القارئ المصرى على استيعاب مثل هذه المعلومات المبسطة. نتساءل ألم يحن الوقت لأن نبدأ بصياغة خطاب إعلامى جاد ينشر مفردات ومنهجا علميا للقارئ المصرى بدلا من الاستمرار فى التشدق بضرورة العلم وأهميته ونشر معلومات غير دقيقة والتباهى بإنجازات مصريين كرموا بالخارج. ونحن فى معرض الحديث عن مسؤولية الإعلام فى المجال العلمى نتساءل أين الاكتشافات المصرية المتتالية التى أعلنت عنها الصحافة المصرية عبر السنوات الماضية، والتى زعمت علاج فيروس «سى» والسرطان والبلهارسيا والإيدز والقضاء على دودة القطن وغيرها؟
إن قبول القارئ للأخبار حول الإنجازات العلمية كأنها معبأة فى صناديق سوداء هو جزء من التغريب والتسحير العلمى، الذى يجب أن ننبذه. ألم يتبادر للذهن أن غرس المنهج العلمى فى التفكير والمعرفة هو أحد الوسائل الأكيدة الواقية من التطرف الفكرى بأنواعه.
وفى هذا الصدد نقول إن محررى الأخبار العلمية لا يحتاجون إلى كثير من الجهد لعرض معلومات مبسطة ودقيقة، خصوصا أن شبكة الإنترنت بها كثير منها. نسوق بعض هذه المعلومات على سبيل المثال: إن الدواء الجديد عبارة عن مركب كيميائى يمنع فعل أحد الإنزيمات الضرورية «الإنزيمات هى بروتينات تحفز التفاعلات الكيمائية فى الخلايا وفى الفيروسات»، وبذلك لا يستطيع الفيروس أن يكون مادته الوراثية وأن يتكاثر فيقضى على الفيروس ويشفى المريض.
إن البعد الأخطر فى المأساة المؤلمة بالإضافة إلى ما ذكرناه هو غياب أبحاث جادة تتناول مشكلات لها أولوية قصوى للشعب المصرى، مثل أمراض الكبد والسكر والبلهارسيا والكلية؟ إن الفرصة الضائعة ليست السماح لشينازى بإجراء الاختبارات على المرضى المصريين خارج المعايير الدولية، ووهم الحصول على تخفيضات هائلة لملايين المصريين، إنما هى عدم الجدية فى بناء قاعدة وطنية علمية قادرة على إنجازات حقيقية تسهم فى حل مشكلات مجتمعية أساسية، وفى نفس الوقت تضيف إلى موارد الدولة كما حدث فى بعض دول العالم الثالث. علينا أن نؤكد أنه يستحيل علينا أن نحقق أيا من هذه الأهداف فى إطار سياسات التبعية.