تقرير يكتبه د. ياسر ثابت يا.. كبدى!.. تعبير مصرى صميم يستخدم للعطف على شخص أو التعاطف معه، حين يعانى ألمًا أو يتعرض لأزمة أو تسحقه قوة تفوق قدراته. هكذا لخص المصريون ببساطة علاقاتهم مع الآخرين.. بالكبد. لكن أكباد المصريين لم تعد قادرة على الصمود.. انهارت تحت وطأة أجهزة ومؤسسات فاسدة فعلت كل شىء من شأنه تليف تلك الأكباد وإصابتها بالأمراض التى تأكل أصحابها أكلاً. وفى بلد مثل مصر، تشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد المصابين بفيروس الالتهاب الكبدى الوبائى «سي» يبلغ 12 % من عدد سكان المحروسة، وهو ما يقارب 10 ملايين مصري. وبهذا تحتل مصر المرتبة الأولى على مستوى العالم فى الإصابة بالمرض. وحسب شبكة الأنباء الإنسانية «آيرين»، فإن هناك 3 أطفال من بين كل 1000 طفل فى مصر يحملون فيروس الالتهاب الكبدى الوبائى «سى»، وهذا يضع العدد الإجمالى للأطفال المصابين بالمرض فى مصر عند عتبة 240 ألفًا. رقمٌ لا يمثل سوى جزء من عدد المصريين الأكبر سنًا الحاملين للفيروس نفسه. ونقلت الشبكة التى تتبع مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، عن د. وحيد دوس، رئيس الحملة الوطنية لمكافحة فيروس «سى» قوله إن 25 % من الناس الذين تزيد أعمارهم على 50 عامًا و3 % ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عامًا مصابون بالالتهاب الكبدى سى. ونبهت إلى أن التمويل الحكومى لعلاج المرض لا يزال عاجزًا عن تلبية الاحتياجات الوطنية، ناقلة عن خبراء قولهم إن علاج المريض الواحد يكلف ما يصل إلى 8333 دولارًا فى العام، وإن هناك عددًا كبيرًا من الناس لا يمكنهم دفع مصاريف علاجهم، وهو ما يعنى أن الحكومة هى التى تتحمل تلك المصاريف . ويقدر د. عبدالغنى عبدالحميد، سكرتير عام المؤتمر السادس للجمعية المصرية للفيروسات الكبدية الذى عقد فى أسيوط فى 10 ديسمبر 2012، عدد المصابين بالتهابات الكبد الفيروسية فى مصر بنحو 12 مليون نسمة بنسبة 18 % تزداد سنويًا بمعدلات عالية. وأشار إلى اختلاف مدى انتشار المرض بين المحافظات المصرية، حيث تبلغ نسبة الإصابة 28.4 % فى الدلتا، 26.5 فى مصر الوسطى، 20.5 % فى صعيد مصر، 8.2 % فى القاهرة، فى حين يصل معدل الإصابة إلى 5.9 % فى الإسكندرية. تقديراتٌ مخيفة لهذا المرض، وتصورات مختلفة لسبب انتشاره. والشاهد أن الحكومات المصرية المتعاقبة خلال العقود الثلاثة الأخيرة فشلت فى وضع سياسة واضحة لاكتشاف المرض وعلاجه والوقاية منه. هذه الحكومات لم تكن وحدها المسئولة، فهى فى النهاية خاضعة للسلطة التنفيذية. تواطؤ مريب إذن بين أطراف عدة أدى إلى إفساد أكباد المصريين من خلال الطعام الملوث والمطعم بالمبيدات المسرطنة والتطعيمات المهرمنة، ومياه الشرب المختلطة بالصرف الصحى والملوثة بالميكروبات والفيروسات. إن مؤسسات الدولة متهمةٌ بالتسبب فى وفاة مئات الألوف من أبناء الشعب بسبب أمراض الكبد، والإهمال الشديد فى وضع منظومة إعلامية للوقاية والحد من هذا الوباء الخطير، وعدم وضع مخصصات مناسبة للبحث العلمى لإيجاد دواء مناسب لعلاج الفيروسات. وهى متهمة أيضًا بالفساد وإهدار المال العام عن طريق استيراد دواء انزفيرون طويل المفعول والخاص بعلاج الكبد بأسعار باهظة، فى حين أنه كان يمكن توفيره بسعر يقل 1100 جنيه عن السعر الرسمى، أى بسعر 350 جنيهًا بدلاً من 1450 جنيهًا. الأخطر من ذلك أننا كنا فى كل مرة نهدر الفرصة السانحة لإنقاذ صحة أبناء مصر. فقد كشف د. عبدالحميد أباظة، مساعد وزير الصحة والسكان، أن البروفيسور رايموند شينازى، مكتشف علاج التهاب الكبد الوبائى "فيروس سي" الأخير، حضر إلى مصر فى بداية أبحاثه، لتجربة العلاج على حالات مصرية تحمل الجيل الرابع من الفيروس، وكان ذلك فى عهد حكومة د. كمال الجنزورى تحت حكم المجلس العسكرى، لكن د. نادية زخارى، وزيرة البحث العلمى وقتها، رفضت، وطلبت منه الحصول على النتائج التى توصل إليها. وأوضح أباظة أن د. فؤاد النواوى، وزير الصحة فى ذلك الوقت، طلب منه حضور اجتماع شينازى فى أحد فنادق القاهرة، بحضور د. نادية زخارى، ورجل الأعمال هانى عزيز، وطبيب مصرى مقيم فى الولاياتالمتحدة، وطلب خلاله شينازى إجراء أبحاث على حالات مصابة فى مصر؛ لأن المصريين مصابون بالجيل الرابع من الفيروس، لكن وزيرة البحث العلمى رفضت، وطلبت الحصول على نتائج أبحاث شينازى الناجحة عن المرض فى الخارج سواء على الحيوانات أم المرضى. وقال أباظة: "لا يُعقل أن يعطى باحث نتائج أبحاثه لأحد، وقد أبلغت الدكتور النواوى بنتيجة الاجتماع". وأكد أباظة أن شينازى عرض أنه لو شاركت مصر فى التجارب على صناعة الدواء الجديد، سيكون من حقها الحصول عليه بسعر زهيد جدًا. وأكدت د. نادية زخارى صحة الواقعة، وقالت: "لم نرفض، وطلبنا الحصول على نتائج التجارب والأبحاث التى أجراها شينازى، لكنه لم يوافق". وأوضحت زخارى أنه ليس من المعقول أن نوافق على أى تجارب على المرضى المصريين، فلسنا حقل تجارب، خصوصا أنه لم يكن قد حصل وقتها على موافقة هيئة الأغذية والأدوية الأمريكية والتى حصل عليها فى ديسمبر 2013 . أفلتت الفرصة وضاعت منا بعد أن كانت بين أيدينا، لنبدأ رحلة المفاوضات مع الشركات المنتجة للدواء الذى ثبت نجاحه للحصول عليه بأسعار منخفضة، وسط محاولات اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية لممارسة ضغوط بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية للوصول إلى أرخص سعر للدواء المذكور. تبارت الحكومات المتعاقبة فى إظهار عجزها عن السيطرة على المرض، لتبلغ حالات الإصابة والتليف والوفاة أرقامًا قياسية تهدد الأمن القومى لمصر. لقد تحول الكبد إلى مرض اقتصاد قومى مع تزايد أعداد مرضاه، حتى أصبح يمثل ثقبًا فى الخزانة العامة للدولة ولجيوب المواطنين أنفسهم، حيث تتجاوز تكاليف العلاج اليومى عدة ملايين من الجنيهات فى الأدوية مرتفعة الثمن.. لكنها لا توقف زحف نشاط التليف وفيروس سى الذى يتحول معه المرض إلى مجرد أجساد نهشها وحش لا يرحم. وفى غياب الدولة وإهمال السلطة عجز المصريون عن حماية أكبادهم من المرض، كما عجزت جيوبهم ودخولهم المتواضعة عن تحمل نفقات تدهور حالتهم الصحية، خصوصا فى ظل حقيقة ارتفاع النفقات المادية - التى تتجاوز حدود قدرات أسرة أو حتى خزانة الدولة- لعلاج من يصل إلى مرحلة الفشل الكبدى عبر جراحات زرع الكبد. وفى بلدٍ محاصر بالأمراض والأزمات يبدو التبرع حلمًا بعيد المنال، ما يزيد من حدة الأزمة لأسر تبكى مرض أحد أفرادها وتقف فى طابور انتظار أمل زرع كبد للعودة من جديد إلى الحياة. أجهزة الدولة ومؤسساتها هى من بث السرطان فى النفوس بتلويثها الزرع والسماد ونشرها "فيروس سي" فى أكباد المصريين وتدميرها كلى الشباب بعد تلويث مياه الشرب. لم نسمع مثلاً عن برنامج وقائى فاعل تنفذه الدولة للحد من أسباب أمراض الكبد الوبائية التى تبدأ بالبلهارسيا وتلوث المياه والطعام والهواء. ولم نر تحركًا جادًا لتخفيف المعاناة التى يعيشها مرضى الفشل الكبدى فى انتظار الأيدى الرحيمة لالتقاطها قبل أن تنهار بها جسور الحياة. عندى لكم مفاجأة هناك من يقول إن استخدام السرنجات خلال الخمسينيات والستينيات فى الحقن خلال حملة مكافحة البلهارسيا فى مصر بالطرطير، هى السبب فى انتشار أمراض الكبد فى مصر. إلا أن الدراسات كشفت أن نسبة 19 % فقط ممن تم حقنهم بالطرطير فى هذه الفترة تم اكتشاف فيروس «سى» لديهم، وبالتالى فلا يمكن أن نجزم بأن استخدام السرنجات الزجاجية هو السبب فى انتشاره، فلماذا لم ينتقل إلى 81 %؟ ووفق الأبحاث والدراسات التى تم إجراؤها، فإن هناك تراكمات للعديد من الأسباب من البلهارسيا ومضاعفاتها، فى حين أن 50 % من المرضى غير معروفٌ مصدر إصابتهم به. لعلكم تذكرون ما كتبه الزميل المرحوم مجدى مهنا فى 25 نوفمبر 2006 فى عموده «فى الممنوع» فى جريدة «المصرى اليوم» بعد تجربةٍ أليمة مع المرض انتهت بزرع كبدٍ جديد له. يومها تحدث مجدى مهنا وتحت عنوان «وصيتى» عن محنته الشخصية مع المرض الذى يشير إلى أن هناك مليونى مصرى من بين مرضاه يحتاجون إلى عملية زرع كبد. وبحسبة بسيطة تبلغ هذه الفاتورة 8 مليارات جنيه، أى بما يزيد على حجم ميزانية مصر السنوية بأكثر من 20 مرة كارثة بكل المقاييس.. والكارثة الأكبر هى كيف وصلت بنا الحال إلى ما هى عليه؟ وفى عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، كانت مصر تعانى تناقضًا شديدًا نجم عن وجود قوائم تحذيرية من استخدام أو تسويق أو استيراد عشرات الأنواع من المبيدات الزراعية فى صورة جدول، وأمام كل نوع منها كتب اسم المرض الذى تسببه، وأقلها: سرطان الرحم والدم والكبد والمثانة. غير أنه فى المقابل كانت تلك المبيدات - التى حذرت منها وزارة الزراعة أيام د. يوسف والي- موجودة فى السوق وتباع بسهولةٍ ويسر. ثم تبين بعد ذلك تورط قياداتٍ من وزارة الزراعة وجهات أخرى فى فضيحة نشر المواد المسرطنة والمسببة للأمراض التى نشرت الأمراض فى بيوت المصريين بلا حساب. ويمكننا أن نقرأ العجب العجاب فى التقرير المقدم من اللجنة الثلاثية، إلى المستشار أحمد إدريس، قاضى التحقيق المنتدب من وزارة العدل، فى قضية المبيدات المسرطنة، التى اتهم فيها الوزراء السابقين يوسف والى وأمين أباظة وأحمد الليثى. ويكشف التقرير عن دخول أكثر من 9 آلاف طن من المبيدات المحظورة، إلى البلاد برغم حظرها، بناء على القرار الوزارى رقم 874 لسنة 1996 ورقم 630 لسنة 2007 والمفرج عنها خلال الفترة من 1999 - 2004 و 2008-2011 على التوالى، وذلك طبقًا لأذون الإفراج، وأن المواد الممنوعة التى سبق حظرها بناء على القرار الوزارى رقم 874 لسنة 1996 (عهد يوسف والي)، هى أعلى نسبة مبيدات دخلت إلى مصر، وهى مانكوزيب، دايميثويت وكارباريل. وقالت اللجنة، فى التقرير، إنها لاحظت أن القرارات الوزارية السابقة لجأت إلى الاعتماد على تصنيف المبيدات من هيئة إلى أخرى، حتى تتمكن من تمرير بعض المواد المحظورة لدى هيئة منهم، برغم أنه فى مثل هذا الشأن تلجأ الدول إلى الاحتياط بمنع استخدام أى مبيد فى حال وضعته إحدى تلك الهيئات فى القائمة الممنوعة؛ لأن تلك الدول تأخذ برأى الهيئة الأكثر تشددًا من باب زيادة الحرص . الوقاية خيرٌ من العلاج مقولة قرأناها وتعلمناها كثيرًا، فلماذا لا نعمل بها فى مجال حماية أكبادنا من الأمراض التى قد تفتك بها.. وأيضًا فى مجال مواجهة فساد أصبح يفتك بالجميع من دون تفرقة وتوزع الظلم والقهر علينا كأنها حصتنا التموينية؟ أكباد المصريين فى خطر.. والفاعل معلومٌ للجميع. فلنبدأ بمحاسبة المخطئين والمقصرين.