المهندس أحمد بهاء الدين شعبان إنسان يجبرك علي احترامه، ومثقف يساري له في نفسي مكانة خاصة رغم يساريته! وكتابه «الدور الوظيفي للعلم والتكنولوجيا في تكوين وتطوير الدولة الصهيونية» رسالة للنخبة المصرية التي ضلت طريقها إلي المرسل إليه منذ نشر الكتاب علي نفقته الخاصة عام 2004 اقتناعا منه بأهمية موضوعه. ورسالة الكتاب المباشرة واضحة بدءا من العنوان، لكن الكتاب ينطوي علي درس آخر ربما لم تصل رسالته غير المباشرة إلي الطرف الذي ينبغي - في تقديري المتواضع أن يكون - المرسل إليه، وهو اليسار المصري...!. فالكتاب يؤكد أن العلم والتكنولوجيا لعبا دورا أسياسيا في إنشاء إسرائيل ومسارها، والقصة التي توقفت أمامها طويلا في الكتاب هي قصة الصراع علي طبيعة الجامعة العبرية التي كانت من الركائز الأولي للمؤسسة العلمية الإسرائيلية، فكما يروي الكتاب حدث صراع بين تيارين: «شعبوي» يتزعمه زئيف جابوتنسكي، و«نخبوي» تزعمه حاييم وايزمان. التيار الشعبوي كان ينادي بجامعة للتعليم لا للأبحاث، «جامعة الأعداد الغفيرة» التي تعوض الطلاب اليهود عما لحق بهم من الاضطهاد في أوروبا، أما وجهة النظر الأخري فانحاز أنصارها إلي جامعة نخبوية تركز علي البحث العلمي والاعتداد بالكيف المتميز لا علي تعليم أعداد كبيرة. وفي النهاية انتصرت وجهة نظر وايزمان فتحولت إسرائيل إلي قلعة للتكنولوجيا. والمفارقة هنا أن ما يؤكده أحمد بهاء الدين شعبان (الباحث) تخالفه قناعات أحمد بهاء الدين شعبان (الناشط السياسي)، فهو يساري، واليسار المصري ما زال يرفع شعار «الانحياز للجماهير الغفيرة». وهذا التوجه الجماهيري يكاد يتحول إلي تيار سائد علي ساحة العمل العام في مصر. وإذا كان أحمد بهاء الدين شعبان يؤكد أن انتصار وايزمان ممثلا لأولوية الكيف علي جابوتنسكي ممثلا لأولوية الكم قد ساهم في نجاح إسرائيل فإنه - وهو هنا مجرد عينة ممثلة - لا يعترف بأن انتصار نموذج جابوتنسكي في مصر هو سبب رئيس من أسباب فشلنا. فقد مرت مصر بمفترق الطريق نفسه بين 1952 و1954 وكانت النتيجة انتصار «خيار جابوتنسكي» علي «خيار وايزمان»، وقد خرجت مصر من هذا المفترق «جمهورية شعبوية»: فالسياسة شعبوية والتعليم شعبوي.. والاقتصاد شعبوي.. والثقافة شعبوية، والإعلام شعبوي و...... أما الجماهير الغفيرة فأصبحت تشغل النخبة بأكثر مما ينبغي. والمصيبة أن انشغال النخبة بشكل مبالغ فيه بالجماهير الغفيرة لم يجعل هذه النخبة قادرة علي تحريك هذه الجماهير باتجاه التغيير، بل أصبحت النخبة وحدها في ساحة التغيير بلا جماهير لا غفيرة ولا قليلة!. والمعركة ليست من معارك الماضي، فالشعبويون ما زالوا أعلي صوتا، والحراك السياسي الذي تشهده مصر الآن قد يصبح مفترق طريق حاسم تخرج مصر منه مستعيدة توازنها بين ما هو «شعبوي» وما هو «نخبوي». لكن ما يقلق أن النخبة المصرية - ربما بشكل لا نظير له في العالم - تبذل القسم الأكبر من جهدها لتأكيد شعبويتها رغم أن الإصلاحي الحقيقي يجب أن يكون مستعدا لأن يقول للتيار السائد «لا» للناس في وقت معين، بالقدر نفسه الذي يكون فيه مستعدا لأن يقول «لا» للسلطة، فالسلطة ليست المستبد الوحيد بل قد تتحول الجماهير إلي مستبد أكثر خطورة وشراسة. والمثقف الحقيقي هو من يكون مستعدا للتعلم حتي من تجربة العدو، فالحكمة كما قال الرسول صلي الله عليه وسلم: «ضالة المؤمن»، والقرآن يلفت نظرنا إلي مشتركات كونية بين تجارب الأمم، بل إنها في القرآن تأتي موصوفة بأنها «هداية»، قال تعالي: «يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم» (سورة النساء 26). والمشكلة التي تكشف عنها هذه المفارقة هي الخلط المعيب في الخطاب السياسي السائد بين القيم والشعارات، فالعدالة الاجتماعية قيمة لا أحد يجادل في نبلها، لكن في الوقت نفسه لا يوجد ما يحتم تحقيقها بأن تتحول الدولة إلي مستثمر ينفق نيابة عن الناس دون أن تكون مؤهلة بكفاءة لدور المستثمر. وكذلك لا يوجد ما يجعل تحقيق العدالة الاجتماعية مرتبطا بشكل حتمي بالقطاع العام أو الدعم أو سيطرة الدولة علي التعليم والإعلام والصحة والثقافة.... بل يمكن تحقيق قيمة العدالة الاجتماعية بكفاءة أعلي من خلال توزيع عادل لعوائد اقتصاد حر. والكلام نفسه ينطبق علي إتاحة فرص تعليم متكافئة فهذه «قيمة» أما حتمية التعليم المجاني فهو «شعار»، ووضع الشعارات مكان القيم حرمنا من أن يكون لدينا ما يستحق وصف «تعليم»، ولم تكن ثمرته سوي طلاب بائسين ومعلمين أكثر بؤسا ومدارس خارج الزمن، فضلا عن جيوش من أنصاف الأميين العاطلين أصحاب الشهادات، أما وهم المجانية.... فخرج ولم يعد!.