كانت الكعبة قد أوشكت على الإنهيار ، قيل : بحريق أصابها ، وقيل : بسيل جارف ، وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمس سنوات على الراجح ، فلم تجد قريش بدا من إعادة بنائها . فلما أقترب تمام البناء و لم يبق إلا موضع الحجر الأسود اختلف المشاركون ، فقال بطن من قريش : نحن نضعه ، وقال الأخرون : نحن نضعه ، فقالوا : اجعلوا بينكم حكما ، قالوا : أول رجل يطلع من الفج ، فجاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أتاكم الأمين ، فقالوا له ، فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه فوضعه هو صلى الله عليه وسلم . بسط النبي رداءه ، فاتسع الوطن للجميع ، واتسعت مساحات الإتفاق بين المتصارعين على السيادة و السلطة ، إن صناعة التوافق تحتاج إلى حلول إبداعية غير تقليدية تقوم على المشاركة لا المغالبة ، لقد كانت الحلول المتاحة لإتمام البناء أن يقترع المشاركون ، أو يتفاضلون أيهم أعلى مقاما و أشرف نسبا و أوسط دارا بين العرب ، أو يتقاتلون والغلبة للمنتصر ، أو يعطلون البناء حقنا للدماء ، لكن حل النبي اعتمد على قاعدة ذهبية تقول : إن حق المشاركة في بناء الأوطان مكفول للجميع .
لقد احتاج الأمر إلى حكم عادل و متحاكمين مخلصين ، بسط النبي رداءه فمد المؤمنون بالتعددية أيديهم ، لم يتخلف منهم أحد ، لأن نواياهم كانت خالصة لإتمام البناء ، وقلوبهم معلقة بنيل شرف المشاركة .
و اليوم نجحت لجنة الخمسين في الوصول إلى كلمة سواء بين مختلف فصائل الشعب المصري ، وعززت مساحات الإتفاق بين المشاركين في بناء الدستور رغم تنوعهم و اختلافهم ، لأنها استنت بسنة النبي محمد عندما اتسع رداءه للمخلصين من أبناء وطنه ، فحقق شعار الدين لله والوطن للجميع ، أي يتسع للجميع دون إقصاء أو اصطفاء .
استطاعت لجنة الخمسين أن تضع دستورا توافقيا ، شارك فيه الجميع و لم يتخلف إلا من رفض قاعدة مشاركة لا مغالبة ، لقد أقصى الإقصائيون أنفسهم ، لم يقصهم أحد ، امتنعوا بحجة أن اللجنة ضمت فلولا و عسكريين ومسيحيين و علمانيين و فنانين و مبدعين .
الذين أقصوا أنفسهم لا يؤمنون بالتعددية التي أقرها النبي قبل البعثة ، و أقرها القرآن الكريم : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " . سنة الله في خلقهم التنوع والتعدد ، التعددية في خلق الله آية من آيات قدرته ، قال تعالى : " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ " ، فالناس تختلف ألسنتها و ألوانها ، بل و تختلف ديانتها ، فقد اعتبر القرآن تعدد الديانات واقعاً بمشيئة الله تعالى : " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ " ، أي خلقهم ليختلفوا ، لأن اختلاف التنوع هو مصدر بقاء المجتمعات والحضارات ، قال تعالى : " وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ " .
سأذهب للتصويت بنعم على هذا الدستور ، حرصا على نيل شرف المشاركة ، اعلم أن ملايين المصريين سيخرجون بأعداد غير مسبوقة للتصويت على الدستور ، و اعلم أن نسبة التصويت بنعم ستكون شبه إجماع ، ولكن ذلك لن يمنعني من الذهاب إلى الإستفتاء ، لأن الوطن إذا بسط رداءه فلا يجب أن يتخلف مخلص .
لقد علمنا الإسلام أن نكون فاعلين ، و حثنا على الإيجابية والمشاركة في جميع مناحي الحياة ، قال رسول الله : " لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر طريق كانت تؤذي المسلمين" ، رجل يتقلب في الجنة لأنه أماط الأذى عن الطريق ، فما بالك برجل أو امرأة نزلت تميط الأذى عن مستقبل هذا الوطن ؟ .
في الختام ، أليس من حسن الطالع أن يأتي الإستفتاء على الدستور متزامنا مع احتفال المصريين بعيد ميلاد السيد المسيح و المولد النبوي الشريف ؟ ، و كأنما أراد القدر أن يبارك خارطة المستقبل ، و يعمق حالة التوافق التي أثمرت هذا الدستور .