الرئيس السيسى يوجه بترسيخ مبدأ "الرأى والرأى الآخر" داخل المنظومة الإعلامية المصرية    نائب محافظ سوهاج يطلق مبادرة لتأهيل الشباب فى مجالات الذكاء الاصطناعى    سعر الذهب اليوم الأحد 10 أغسطس 2025.. عيار 18 يسجل 3956 جنيها    ستاندرد تشارترد: الاقتصاد المصرى يحافظ على مرونته رغم استمرار الضغوط العالمية    نتنياهو ردا على تهديدات سموتريتش بإسقاط الحكومة: الثمن سيكون باهظا    ارتياح روسى لعقد قمة ترامب وبوتين فى ألاسكا.. ومعلقون غربيون: المكان مروعة    محمد صلاح يقود هجوم ليفربول أمام كريستال بالاس فى الدرع الخيرية    زلزال بقوة 3.7 ريختر يضرب عاصمة مدغشقر ويثير قلق السلطات    طارق محروس يزور معسكر منتخب اليد بعد تعافيه لدعم اللاعبين ببطولة العالم    7 أخبار رياضية لا تفوتك اليوم    "كيف وأين ولماذا مات؟!".. محمد صلاح يهز عرش الاتحاد الأوروبي بتساؤلات جريئة حول استشهاد بيليه فلسطين.. صحف العالم تحتفي بشجاعة "الفرعون" فى مواجهة يويفا.. و800 شهيد حصيلة جرائم الإبادة الإسرائيلية بحق الرياضيين    العثور على رضيع حديث الولادة داخل برميل بمركز قوص فى قنا    استخراج 9454 بطاقة رقم قومى و41779 مصدرا مميكنا فى 10 محافظات    تفاصيل انتهاء المدة المحددة للتظلم على نتيجة الثانوية العامة 2025.. فيديو    متى يتم تطبيقها؟.. حقيقة إلغاء أعمال السنة للشهادة الإعدادية 2025 – 2026    رئيس الوزراء: تناغم بين مختلف أجهزة الدولة باحتفالية افتتاح المتحف الكبير    شرم الشيخ للمسرح الشبابى يطلق استمارة المشاركة فى مسابقاته بالدورة 10    تفاصيل لقاء أشرف زكى مع شعبة الإخراج بنقابة المهن التمثيلية.. صور    جنات تتصدر ترند يوتيوب ب5 أغان من ألبوم "ألوم على مين"    التعليم العالى: براءة اختراع جديدة لمعهد تيودور بلهارس فى إنتاج بروتينات علاجية    الصحة: حملة "100 يوم صحة" قدّمت 38.3 مليون خدمة طبية مجانية خلال 25 يومًا    تحرير 125 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات خلال 24 ساعة    أضرار التهاب المسالك البولية المزمن لدى الرجال والنساء.. وطرق الوقاية    النصر السعودي يتعاقد مع مارتينيز مدافع برشلونة    كهرباء الإسماعيلية يتعاقد مع لاعب الزمالك السابق    مصرف أبوظبي الإسلامي مصر يقرر زيادة رأس المال إلى 15 مليار جنيه    شباب ولياقة.. أحمد عز يمارس التمارين والجمهور يعلق    وزير النقل يوجه بدراسة إقامة رصيف شحن بخط سكة حديد العاشر - بلبيس    انتهاء مشروع ربط التغذية الكهربائية للحي الرابع بمحطة 3 في مدينة بدر    موعد إجازة المولد النبوي 2025 وأبرز مظاهر الاحتفال في مصر    السيسي يوافق على صرف البدل النقدي المقترح من الحكومة للصحفيين    لست قادرا على الزواج ماذا افعل؟.. يسري جبر يجيب    حكم قضاء المرأة الصلاة التي بدأ نزول الحيض في أول وقتها.. المفتي السابق يوضح    ملتقى المرأة بالجامع الأزهر: تجربة المدينة المنورة في العهد النبوي نموذجا يحتذى به في جهود النهوض بالأمة    ضبط 5488 قضية بمجال الأمن الاقتصادي خلال 24 ساعة    إعدام 300 ألف بيضة و170 ألف طن صادرات.. التقرير الأسبوعي ل"سلامة الغذاء"    مشاجرة في الزاوية الحمراء، والسبب 5 جنيهات!    أمين الفتوى يوضح حكم الصلاة أو الصيام عن المتوفى غير الملتزم وطرق إيصال الثواب له    «الصحة» تنظم 146 دورة تدريبية وورشة عمل لتطوير الكوادر التمريضية    مهرجان القلعة يعود في دورته ال33.. ليالٍ موسيقية بنكهة عربية وعالمية    مبادرة «المليون كتاب» ستساهم في تحقيق العدالة الثقافية بين كل الفئات    جهود منظومة الشكاوى الحكومية في يوليو 2025 |إنفوجراف    الرد فى الصندوق لا فى الهاشتاج    محاولة تفجير فاشلة.. محاكمة المتهمين في قضية «خلية المطرية الإرهابية»    إبعاد 6 أشخاص خارج البلاد لأسباب تتعلق بالصالح العام بقرارات من الداخلية    اتحاد الكرة يحدد مؤهلات الأجهزة الفنية المسموح تواجدها بالملاعب خلال المباريات    «جوتيريش» يرحب بالإعلان المشترك الشامل بين أرمينيا وأذربيجان    إزالة 12 حالة تعد وقطع المرافق عن غير الملتزمين بسداد أقساط التقنين بأسوان    أكثر من 2 ملياري جنيه دعما من «صندوق إعانات الطوارئ» ل 429 ألف عامل    عائلات المحتجزين الإسرائيليين بغزة تدعو لإضراب اقتصادي في ال17 من أغسطس الجاري    «الزراعة» تعلن حصول «وقاية النباتات» على تجديد واعتماد دولي جديد ل 12 اختبارًا    وزير الري يتابع حالة المنظومة المائية بالمحافظات وموقف إيراد نهر النيل    جيش الاحتلال يعلن اعتقال 70 فلسطينيا في الضفة الغربية    طارق يحيى: ريبيرو يعاني في قراءة المباريات.. والزمالك حقق انطلاقة موفقة    حظك اليوم الأحد 10 أغسطس 2025 وتوقعات الأبراج    بيونج يانج تحذو حذو سول في تفكيك مكبرات الصوت على طول الحدود    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    ريبيرو: كنا الأفضل في الشوط الثاني.. والتعادل أمام مودرن سبورت نتيجة طبيعية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إلى سيد الدراما العربية.. سلامتك يا أستاذ الأساتذة

نقاوم معه المرض اللعين بصحبة سليم البدري وسليمان غانم ومفيد أبوالغار وحكمت هاشم
اضغط على الصورة لمشاهدة الموضوع
الكتابة عن مبدع حقيقي أصلي وغير مزيف بحجم «أسامة أنور عكاشة» عمل مرهق وخطير؛ لأن ذلك يتم مع «عميد الدراما العربية» بحق، يمكنك بطبيعة الحال الاختلاف أو الاتفاق حول بعض أعماله أو حتي بعض آرائه التي يقولها علي لسان أبطاله أو عبر قلمه اللاسع في مقالات أشبه بكرات النار، لكنك بكل تأكيد لا يمكن أن تنطلق إلا من قناعة مفادها أن هذا الرجل هو الذي «أدّب الدراما» أي جعل المسلسل التليفزيوني به قبس وروح من الأدب المقروء، وهو الأمر الذي يجعلك تشاهد «ليالي الحلمية» و«زيزينيا» و«الراية البيضا» وغيرها من روائعه الدرامية مشدوها مستمتعا كأنك تقلب صفحات رواية مشوقة بيديك. «عكاشة» نقطة مفصلية في تاريخ الدراما العربية بكل تأكيد، ولابد أن التاريخ سيقف طويلا عند منجزاته، بما يمكن أن نسميه مرحلة ما قبل أسامة أنور عكاشة، ومرحلة ما بعده.
وهو يقاوم الآن المرض بشجاعة وشرف وبراءة أبطاله الذين عشنا معهم عمرا طويلا، لا نملك له سوي الدعاء بتمام الشفاء، وأن نتسلل إلي عالمه الدرامي والأدبي الثري بصحبة أبوالعلا البشري ومفيد أبوالغار وحكمت هاشم وحسن النعماني وسليم البدري وسليمان غانم وبشر عامر عبدالظاهر، وفتح الله الحسيني، وأشرف عفيفي لنهتف من القلب.. سلامتك يا أستاذ.
رحلات الشهد والدموع بحثا عن الضمير والحب والوطن بدون رفع «الراية البيضا».. أبدا
إذا كان كثيرون يعتبرون نجيب محفوظ «أيقونة» الأدب المصري وعاطف الطيب «فلتة» في الإخراج السينمائي ويوسف وهبي «عميد» المسرح العربي، فإن أسامة أنور عكاشة بالنسبة للدراما العربية هو العميد والفلتة والأيقونة. هو صاحب بصمة خاصة جعلت من يشاهد مسلسلاته يصرخ بكل ثقة «هذا المسلسل يحمل اسم أسامة أنور عكاشة». وإن كانت الأفلام أو المسلسلات يتم تسويقها بأسماء الممثلين المشاركين فيها فإن اسم هذا الرجل وحده علي أي مسلسل يكفي ويزيد.
يكره المط والتطويل ورغم هذا فإن لديه «نَفس» طويلاً جعله يصبح رائدا ومعلما وأستاذا في مسلسلات الأجزاء، ومن غيره يمكنه أن يكتب أيقونة من خمسة أجزاء مثل ليالي الحلمية؟ أو ملحمة من جزءين مثل الشهد والدموع في وقت لم يكن الجمهور المصري أو العربي يستوعب فكرة أن يكون للمسلسل أجزاء في بداية الثمانينيات؟ والغريب أنه يكتب كل هذه الأجزاء دون أن يفقد نكهته الخاصة، تلك اللمسة السحرية التي تجعل من يشاهد العمل يتعايش معه، يشعر بأبطاله فيدخل معهم صراعاتهم ويحزن لانكساراتهم قبل أن يقطف في النهاية ثمرة الانتصار.
في كل أعماله يأخذنا أسامة أنور عكاشة في رحلة مثيرة وممتعة من إبداعه الخاص والمميز، ولأن رحلاته يصعب حصرها ولأن أبطاله رحالة ومغامرون ولأنه عاشق للسفر محب للبحر فإننا سنتوقف هنا فقط عند أهم تلك «الموانئ»..
ليالي الحلمية.. سليم البدري وسليمان غانم
هنا الرحلة طويلة وممتدة عبر خمسة أجزاء كاملة نتابع فيها رحلتين متناقضتين لمعركة مستمرة بين ذلك الباشا عاشق النساء «سليم البدري» وذلك العمدة طالب الثأر «سليمان غانم». وبين هذا وذاك تقف نازك السلحدار لتساند سليم أحيانا وسليمان أحيانا أخري وتلعب لمصلحتها في كل الأوقات. ورغم أن البعض شعر بأن آخر جزءين لم يكونا علي نفس المستوي فإن الدراما اللاهثة لم تتوقف وسط صراع إنساني مبهر يجعلك تتعاطف في حلقة مع الباشا وفي الحلقة التالية مع العمدة.
رحلة أبوالعلا البشري
رجل من زمن مختلف، يقرر أن يقوم برحلة ويأخذنا معه. إنه أبوالعلا البشري الذي يأتي للقاهرة حاملا معه قيماً اختفت وضاعت وسط الزحام. لم يعد هناك شرف ولا أخلاق ولا مبادئ وإنما أصبحت الفلوس لها الكلمة العليا. يأتي السيد أبوالعلا لقريبته نعمات التي كان يعشقها صغيرا ويقف بجانبها في مشاكل أبنائها لكنه يجد نفسه فجأة مثل دون كيشوت يحارب طواحين الهواء.
ضمير أبله حكمت.. رحلة حكمت هاشم
حكمت هاشم.. ناظرة مدرسة نور المعارف الثانوية للبنات التي تربي الأجيال وتتمسك بالمبادئ لكنها تفاجأ بالجديد كل يوم. هل يمكنك أن تنساها؟ أو تنسي معاركها مع المدرسين ومع أخواتها ومع طالباتها ومع أولياء الأمور ومع جارها الذي يحبها في صمت ومع حبيبها القديم وحتي مع صديقة عمرها؟ وسط كل هذا تقف السيدة حكمت هاشم شامخة رافعة رأسها تكسب معاركها بشرف حتي لو اضطرها الأمر في النهاية للانسحاب ولكنها ظلت مرفوعة الرأس.
المصراوية.. رحلة العمدة فتح الله الحسيني
دراما جديدة ملحمية من خمسة أجزاء عن رحلة العمدة فتح الله الحسيني يرصد فيها أسامة أنور عكاشة عن مصر في العشرينيات وحتي الآن. هي رحلة مغايرة عن تأثير السلطة علي النفس البشرية، عن ذلك العمدة الذي يحكم بلدته بقبضة من حديد لكنه يتحول إلي طفل صغير عندما يقع في هوي المصراوية. هي الرحلة التي بدأها أسامة أنور عكاشة وننتظره ليكملها بإبداعه الخاص الذي طالما وقعنا في هواه.
أرابيسك.. رحلة حسن النعماني
حسن النعماني الشهير بحسن أرابيسك التائه في هذا العالم، يحب فتاة تصغره ويفقد ابنه ولا يجد نفسه في العمل الذي يعشقه فيهرب إلي الدخان والحشيش، إلي عالم المساطيل لعله يجد فيه السلوي لكنه يفقد معه احترامه لنفسه واحترام من يحبونه فيقرر أن يتوقف حتي تدب الحياة من جديد عندما يسمع نداء وطنه فلا يتردد في أن يلبي ومع محاولة إنقاذ الدكتور برهان العالم المصري، ليسافر حسن النعماني في رحلة يعثر في نهايتها علي نفسه.
الشهد والدموع.. رحلة زينب
هل يمكنك أن تنسي «زينب» تلك المرأة المنكسرة والقوية في الوقت ذاته التي تدافع عن حقوقها أمام جبروت حافظ وزوجته دولت؟ رغم أنهما أبناء لنفس الرجل فإن شوقي كان طيبا وديعا فيما كان حافظ جباراً طامعاً في زوجة أخيه، مات شوقي وترك زينب وحدها تحاول استرداد حقوقها وحقوق أبنائها، تواصل رحلتها رغم الصعاب ويواصل المشاهد متابعته لها متعاطفا معها بدموعه أحيانا وبدعواته أحيانا أخري.
امرأة من زمن الحب.. رحلة وفية
امرأة من الصعيد جالسة في صيدلية بالمنيا تجد نفسها فجأة في رحلة إلي القاهرة حيث أبناء أخيها، جيل غريب ومختلف يتراوح بين عبدة الشيطان والرجل الذي يري التدين في الزواج من طفلة ليربيها علي يديه! تقف وفية وسط كل هذا بشموخ وقوة لا تتخلي عن مبادئها ولا عن حنانها الذي يختفي خلف قناع من الحزم والوقار قبل أن تجد نفسها فجأة مضطرة للقيام برحلة جديدة إلي لبنان حيث الصراع مع الإسرائيليين لاستعادة ابنها وحفيدها. هي رحلة امرأة تتمسك بالمبادئ في زمن اختلت فيه الموازين.
الراية البيضا.. رحلة مفيد أبوالغار
هذه رحلة من طراز خاص بين السفير المثقف مفيد أبوالغار والمعلمة فضة المعداوي. صراع يتجدد مع كل حلقة يبدع فيها أسامة أنور عكاشة ومعركة بين القبح والجمال تتفاعل معها وتحارب بكل جوارحك لتجد نفسك في النهاية واقفا أمام فيلا مفيد أبوالغار ترفع يديك أمام الونش رافضا أن تركع أو ترفع الراية البيضا.
أنا وإنت وبابا في المشمش.. رحلة إنقاذ عبدالباقي
عبدالباقي.. الموظف الشريف الذي يربي ابنته علي الأخلاق والمبادئ لكنه يجد نفسه متهما بعد أن قرر الوقوف في طريق الفساد. وهنا تبدأ رحلة مغايرة، ليس رحلة شخص وإنما رحلة البحث عن براءة عبدالباقي يقوم بها كل من عشقوه وآمنوا بمبادئه. وداد ابنته ونجاتي خالها وغيرهم الكثيرون لكنهم يجدون الفساد يتسع ويكبر ليصل إلي أعلي المناصب والدرجات.. فهل تنجح الرحلة في النهاية رغم العقبات ويحصلون لعبدالباقي علي براءته؟ أنت هنا تضحك وتبكي في الوقت نفسه، تتفاعل مع الأبطال وتدخل معركتهم ويأخذك أسامة أنور عكاشة إلي عالم غريب وجديد ومبهر لتكتشف أن المبادئ والأخلاق صارت.. في المشمش.
زيزينيا.. رحلة بشر عامر عبد الظاهر
نصفه إيطالي ونصفه مصري، تائه في دنيا مليئة بالخواجات، عاشق للنساء، يبحث عن نفسه فلا يجد العنوان. يحب ويخون، يتاجر ويخسر، يتنقل بين المصريين والإيطاليين واليونانيين لكنه يعود في النهاية لشط إسكندرية الذي يمثل له العشق والمرسي. رحلة جديدة لأسامة أنور عكاشة في زمن مختلف راح وانتهي يبحث فيها ذلك المصري الإيطالي عن حقيقة بشر عامر عبد الظاهر.
في أحدث أعماله الروائية البديعة.. سوناتا لتشرين.. ذلك اللقاء المستحيل بين الربيع والخريف!
لأن «عكاشة» بالأساس كاتب قصة ورواية، فإنه يختلس بين الوقت والآخر بعضا من زمن ليخرج علينا برواية جديدة، فعلها لأول مرة بعد انقطاع طويل عام 2000 عندما أصدر روايته البديعة «منخفض الهند الموسمي» ثم تلاها بالرواية الثانية التي لا تقل زخما «وهج الصيف» عام 2001 ليتوقف مجددا عن «حبه الأول» كما يصفه هو بنفسه قبل أن يعود مرة أخري إلي «الأرض التي شهدت فجر موهبته» ليصدر روايته الأخيرة «سوناتا لتشرين» في ديسمبر عام 2008، واستقبلها القراء بحفاوة بالغة حتي صدرت طبعتها الثانية مؤخرا عن دار العين، ومع هذا تعرضت الرواية لعملية «تعتيم» إعلامي غريبة للغاية.
في «سوناتا لتشرين» لا يتخلي «أسامة أنور عكاشة» عن مفرداته الروائية المميزة، هناك تضفير واضح بين الأحداث والزمن وأحوال الطقس مثلما حدث في «منخفض الهند الموسمي» و«وهج الصيف» فقط في (سوناتا لتشرين) اختار «أسامة أنور عكاشة» أن يجمع بين الحبيبين «الشتاء» و«الإسكندرية»، وكان هذا اختيارا مثاليا ملائما تماما لطبيعة أحداث الرواية التي رغم سرعة إيقاعها وسخونة أحداثها بها أيضا تقلبات الإسكندرية في «تشرين» -شهري أكتوبر ونوفمبر- وفيها الأمطار تهطل وتنقطع فجأة كما يليق بجو تشريني تماما.
ولثالث مرة علي التوالي، بطل «أسامة أنور عكاشة» في روايته هذه صحفي أيضا، لكنه صحفي متقاعد أو بالأحري صحفي اعتزل المهنة؛ لأسباب جبرية مجهولة للقارئ وستظل كذلك له حتي منتصف الرواية تقريبا، وكأن المؤلف يمهّد للمفاجأة والتفاصيل القاسية التي ستتكشف تدريجيا وبأسلوب سردي جديد ومغاير، فالصحفية الشابة «ميريت فهمي» -لاحظ دقة وبساطة اختيار الاسم الذي يصلح لأن يكون لمسلمة أو مسيحية- التي تربّت علي قلم الكاتب الصحفي النشط الصاعد كالصاروخ «أشرف عفيفي» قبل استقالته الغامضة واختفائه المثير بعد يوم واحد فقط من توليه رئاسة تحرير صحيفة كبري، تأتيها الفرصة عندما تراه صدفة في أحد المؤتمرات في الإسكندرية، ثمة شيء ما يجمع بين الصحفي المخضرم والصحفية الشابة منذ أول لقاء، ليس حبا بالمعني المعروف وليست علاقة عابرة في ذات الوقت، للحظات سيستشعر «أشرف» أن «ميريت» جاءت له في الوقت المناسب تماما لتعيده مرة أخري إلي الحياة التي اعتزلها، لكن ذكري «تصفيته» عبر مغامرته الصحفية تلك التي يتكتم أسرارها لا تزال تلوث عليه كل الأشياء الجميلة، وها هو «عكاشة» يعبر عن ذلك بعبارات موجعة خارقة مبهرة في حشدها لكل هذه الانفعالات في داخل البطل: «ماذا يمكنك أن تحصلي من رقاع الغاب وبراري الصقيع؟ وأي مغنم يمكنك أن تجدي وسط أكوام الهشيم؟ لن تجدي غير أكوام من رماد الخصوبة الغابرة وكرات الشوك تتقاذفها هبات ريح الشمال المحملة بملوحة الأيام القديمة وذكريات أصياف منتحرة».
لكن مقاومة «أشرف» تنهار تدريجيا تحت ضغوط «ميريت» حتي وهو يدرك أن شغفها بمعرفة تفاصيل اختفائه المثيرة لا يقف عند حدود المحبة والإعجاب، وإنما يصل إلي الفوز بسبق صحفي ضخم، فيعقد معها الصفقة التالية: «خذي هذا المظروف ففيه شريطان صوتيان سجلتهما لنفسي! وحدي! كنت أنا وجدران بيتي فقط وحاولت أن أكون حرا.. فسردت كل شيء وتطرقت إلي مساحات شائكة لا أجرؤ علي الاقتراب منها، واعلمي أنه لم يكن في تصوري أن أدع شخصا أيا كان يسمع هذه الاعترافات.. اكتبي وانشري ولا تخشي أن أغير رأيي وأكذّبك، فمعك الدليل الدامغ.. الرواية كلها بصوتي علي الشرائط.. لي شرط وحيد إذا قبلت تركت لك الشرائط ومضيت لحال سبيلي.. بعد أن تسمعي الشرائط وتكتبي قصتك، لا تتصلي بي.. لا تهاتفيني.. ولا تسعي للقائي.. فلن أستطيع أن أواجهك بعدها».
كان الشرط قاسيا، لكن الإغراء لا يقاوم، احتضنت الصحفية الشابة المظروف المليء بالأسرار وعادت إلي القاهرة، وعبر كاسيت صغير انسابت التفاصيل المدهشة والمروعة لصعود وانهيار الصحفي المخضرم، الذي علي خلاف شخصيات «عكاشة» المعتادة دراميا لم يكن «ملائكيا خيّرا صرفا» وإنما بشري صاحب طموح تتنازعه رغبات الشهرة والتفوق وتغريه بالاستمرار في طريق يعلم أنه سيتلوث حتما إذا سار فيه، ولعل هذا هو سر التعاطف والشجن الذي سيشعر به القارئ عندما يري بطله وهو «يلتصق بخيوط العنكبوت» عندما يصطدم مع نفوذ رجل الأعمال الإخطبوطي «الجرواني» الذي يتمتع بشبكة علاقات مروعة مع «كبارات» في البلد، وعبر خدعة بارعة -ممتعة عبر السرد الروائي لكنها ستكون مبتسرة إذا تم تلخيصها في كلمات- يقع «أشرف» فريسة في شبكة الفساد التي يصنعها الزواج الاستثنائي بين السلطة التي يمثلها في (سوناتا لتشرين) «صاحب المعالي» والمال الذي يمثله «الجرواني»، وكلمة السر البسيطة في الخدعة كلها هي تلك التي خرجت من المحامي الداهية لرجل الأعمال الفاسد: «ربما كان تدبير الخلاص من صحفي بالقتل أمرا سهلا.. لكنه سيشعل كل حرف كتبه هذا الصحفي في حملته ويجعله تنينا متوهجا أمام الناس! والحل عندي أن نقتل مصداقيته! أن نحوله أمام قرائه إلي كاتب مبتزّ ومساوم حقير.. هنا سنقتل الرجل والفكرة معا!».. وقد كان!
لكن الصحفية الشابة تخرق الاتفاق، وتعود إلي الإسكندرية التي تغتسل ببعض من مطر تشرين، لتجد أستاذها وقد تحول إلي شخص آخر غير الذي تركته منذ بضعة أيام وقد ظهر له مزيد من تفاصيل خديعة العمر التي لم يسجلها علي شرائط الكاسيت، ومع هذا لا تتراجع أو تتزحزح للخلف: «وماذا كان بيدي أن أفعل وقد احتللتَ كل أرض يمكنها أن تؤويني، وفرضَتْ أفكارك وأحاديثك وتفاصيل هزيمتك حصارا حول وعيي واتصالي مع الآخرين، وبتُّ لا أسمع غير صوتك ولا أري إلا ما رويته لي»، لكن بطلنا الذي بات يعيش علي أطراف الحياة لم يعد يملك ترف الاختيار.. فتكون نهاية الحدوتة وسماء تشرين تنذر بأمطار وشيكة.
في «سوناتا لتشرين» -التي هي بمثابة ترنيمة وداع حزينة للإنسان حينما يغادر الحياة وهو فيها- لا يشير الكاتب الكبير «أسامة أنور عكاشة» نحو المذنبين بشكل مباشر ولا يقف إلي جوار الضحايا منحازا باعتبارهم مشاركين نسبيا فيما وصلوا إليه، كما لا يكتب لقارئ عادي، وإنما يضع المعطيات منتظرا من قارئه الخاص أن يُعمِل عقله ليفكر في مصائر البشر الذين يداهمهم مطر وعواصف الشتاء في تشرين فلا يأتيهم بعد ذلك الربيع كما هو طبيعي وإنما الخريف.. والخريف وحده فقط!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.