بالرغم من تكرار المشهد الذي حدث عند مجلس الشورى الأسبوع الماضي اكثر من مرة خلال الفترة الماضية، إلا أن الوضع هذه المرة مختلف تماماً. ما حدث أمام مجلس الشورى ليس مجرد صدام تقليدي بين النشطاء وقوات الأمن، فبالرغم من كون تصرفات الدولة في هذا الموقف لم تعبر سوى عن تشبث بالمبادئ والأساليب التي طالما اتبعتها الدولة واتقنت استخدامها، إلا أن هناك عدد من المعاني الاجتماعية والسياسية التي يجب ألا نهمل قراءتها في غمار كل القبح الذي يحيط بالموقف بشكل عام. فهناك أولاً تحدِ واضح في سلوك وزارة الداخلية من خلال اللجوء لذات الوسائل والأساليب التي جاءت ثورة 25 يناير لتفضحها وترفضها. وتبرر الوزارة، ورجالها، والمتضامنين معها، والمنتمين لها، والباحثين عن رضاها، هذا السلوك بأنه تطبيق للقانون ليس أكثر في ظل ما يتيحه لها قانون التظاهر من أدوات، وهو أحد أهم التغييرات السياسية التي جاء بها القانون الجديد. فالحكومة بالرغم من كونها حكومة انتقالية، عادت بنا سنوات إلي الوراء بهذا القانون من خلال تفصيله وفقاً لمتطلبات الأمن، وما يضيفه هذا القانون من شرعية لممارسات غير قانونية وعنف غير مبرر وانتهاكات ترتكبها وزارة الداخلية تحت راية هذا القانون. وتلك هي الكارثة الحقيقية، فصدور قانون التظاهر بهذا الشكل، وفي ظل غياب المجالس التشريعية التي كان من المفترض الانتظار لحين انعقادها قبل إقرار قانون بهذه الحساسية سياسياً، صدور القانون هو في الواقع إعادة إحياء للنموذج الذي عرفته مصر منذ سنوات، سيطرة الأمن علي المجال السياسي واستخدام التشريع كأداة تساعد الأمن علي إحكام هذه السيطرة، أو بمعنى أكثر وضوحاً، يُعيد قانون منع التظاهر صياغة العلاقة بين الأمن والمواطن بحيث تكون الاعتبارات الأمنية أكثر أهمية من اعتبارات حقوق وحريات المواطن.ثانياً، كشفت أحداث قانون التظاهر وردود الفعل التي خلفتها عن ظهور جماعة اجتماعية-سياسية تؤيد المرحلة الحالية بكل أبعادها. وهي جماعة تنتمي سياسياً لليمين المحافظ غير المتشدد دينياً، واجتماعياً للطبقة الوسطي والوسطي-العليا، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن هذه الجماعة، وهي ما يمكن أن نطلق عليها "تحالف 30 يونيو"، باتت هي الأقوى والأكثر تأثيراً في المشهد السياسي مؤخراً. كما أن تحالف 30 يونيو بات مسيطراً علي مجموعة من العوامل التي تؤهله لبسط نفوذه علي العملية السياسية والمجال العام في الفترة القادمة. فيضم هذا التحالف القوى السياسية التي تحركت في 30 يونيو من أحزاب وحركات، والمؤسسات الدينية-القومية كالأزهر والكنيسة، والمؤسسات السياسية كالبيروقراطية والسلطة القضائية، وبالطبع يضم هذا التحالف مؤسسات أمنية كالشرطة والقوات المسلحة وما يتفرع منهم من أجهزة استخباراتية. ولذلك صار تحالف 30 يونيو علي بعد خطوات قليلة من الإدارة الفعلية للدولة في مصر مدعوماً بطبقة اقتصادية من رجال الأعمال ونخبة سياسية ظهرت توجهاتها وتفاعلاتها بوضوح خلال أعمال لجنة الخمسين. ويحتاج هذا التحالف بالطبع لشرعية سياسية يسعى للفوز بها مع الاستفتاء علي الدستور والذي يأمل هذا التحالف أن تكون نسبة المشاركة فيه أعلي من نسب المشاركة في استفتاء 2012، ونسبة المصوتون بنعم أعلى من تلك التي مر بها دستور الإخوان العام الماضي.ثالثاً، جاءت أحداث المواجهات الخاصة بقانون التظاهر بتغير آخر في موازين القوى السياسية. ففي مواجهة تحالف 30 يونيو وموقفه الداعم لقانون منع التظاهر نجد هناك مجموعتان رئيسيتان: أولاً، الإخوان المسلمين والمتضامنين معهم، ومن يدعمون عودة مرسي للرئاسة بشكل عام، وثانياً، النشطاء السياسيين، أو شباب الثورة، أو اي مسمى آخر يمكن أن يصف التحالف غير المؤسسي بين شباب طالما تحركوا ضد عنف الدولة، وغياب سيادة القانون، والتعدي علي الحريات. وجاءت الأحداث الأخيرة لتشير لضعف واضح في القدرة التعبوية للمجموعتان. فلم تعد الاخوان كجماعة سياسية قادرة علي حشد ذات الأعداد التي كانت قادرة علي حشدها يوماً ما، وفي ذات الوقت باتت الجماعة غير قادرة علي اكتساب تعاطف دولي يدعم موقفها. فعدد الدول التي تعلن رسمياً عن مساندتها للتحول الديمقراطي في مصر ما بعد 30-6 يزداد يوماً بعد يوم. وفي ذات الوقت، لم يعد النشطاء قادرون علي حشد نفس الأعداد التي كانوا يستطيعون حشدها في وقت سابق، وأسباب ضعف القدرة التعبوية لجماعة النشطاء السياسيين متعددة ولن يتسع هذا المقال لذكرها. وبالطبع هناك استهداف واضح للفئات الاجتماعية والسياسية التي تعارض الحكم الانتقالي الحالي وخارطة الطريق، سواء كانت هذه المعارضة دعماً لمرسي والإخوان أو رفضاً للحكم العسكري وسطوة القطاع الأمني علي المجال السياسي في مصر. فبمجرد ظهور علامات تدل علي استعداد قطاع من النشطاء السياسيين للتحرك المعارض للنظام القائم حالياً أو لتحالف 30-6، بدأ النظام في استخدام أدواته المختلفة كالإعلام والتشريع لتشويه صورة هذا القطاع، واتهامه بالخيانة والعمالة ومعارضة الصالح العام لمصر. ونتيجة لكل هذه العوامل، من غير الممكن أن نتعامل مع الأحداث الأخيرة علي أنها مشهد تقليدي رأيناه كثيراً بين الأمن والمتظاهرين، فالأحداث الأخيرة تحمل في ثناياها تغيرات سياسية شديدة الأهمية، تغيرات تشير إلى محاولات جادة لإعادة إحياء نظام سياسي واجتماعي. فالأزمة ليست فقط الأفراد الذين تم الاعتداء عليهم (بالرغم من ما يحمله هذا من قبح)، بل الأزمة الحقيقية هي البدء في إرساء قواعد راسخة لنظام جديد لا يحمل أي اختلاف عن الأنظمة التي سبقته سواء في عهد مبارك أو مرسي، فالدولة واحدة، والمؤسسات الحاكمة واحدة، والعلاقة بين أفرع النظام واحدة، والمتغير الوحيد هو النخبة، ولكن تغيير النخبة السياسية والاجتماعية وحده غير كافي لإحداث تغيير ثوري أو إصلاح جذري، ولذا يظل النظام الحالي (مثله مثل النظام السابق) يمثل ثورة غير مكتملة الأركان.
زياد عقل.. خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية..