حالة رشوة مرسيدس - المتورط فيها مسئول كبير في الدولة - ليست أمرا استثنائيا أو عارضا، فقط التي انكشف عنه الغموض إلا قليلا، لكن الشواهد - ومنها تقرير الشفافية الدولية لعام 2010 الذي وضع مصر في الترتيب رقم 111عالميا من أصل 180 دولة من حيث انتشار الفساد والرشوة-، تؤكد أن الرشوة في صفقات رجال الأعمال هي في أغلب الأحوال - إن لم تكن في كل الأحوال - «مدونة سلوك» يلتزم بها غالبية رجال الأعمال لتخليص أعمالهم وللفوز بالصفقات الكبيرة «الملظلظة» التي يهون في سبيل الظفر بها أي ملايين يتم دفعها في الطريق علي سبيل الرشوة أو «تسليك المصالح».. لا فارق. وإذا كانت الرشوة التي نسميها إكرامية باتت أمرًا طبيعيًا نمارسه.. هل يمكن لرجل أعمال أن يحصل علي أراض ورخص لاستكمال إجراءات إنشاء مصنع دون اللجوء إلي دفع رشوة؟ هل يمكنه أن يحصل علي رخص وموافقات الدفاع المدني والبيئة والمطافئ ويهرب من مفتشي التموين والجهات الرقابية دون دفع رشوة؟ وهل تخلو احتفالات ولقاءات المناسبات بين كبار رجال الأعمال والتي يشارك فيها مسئولون من التطرق للحديث حول صفقات ومصالح متبادلة؟! وإذا كان مفهوم الرشوة الذي يترسخ في أذهاننا حتي اليوم هو المقابل المادي.. أليس من المنطقي أن يتم تطويره مع تطور أساليب العصر من الماليات إلي تعيين أحد الأقارب مثلا في منصب ما، كما أكد أحد رجال الأعمال؟ وهل ينبغي أن نفرق كما يفرق بعض رجال الأعمال بين أنواع الرشاوي، حيث يرون أن دفع رشوة للحصول علي حق حلال من وجهة نظرهم، بينما لو كانت من أجل محاولة الحصول علي حق ليس لهم فهذا حرام؟ هذه «الكومة» من التساؤلات طرحناها علي أصحاب الشأن.. علي رجال الأعمال الذين ينتمون لوسط البعض يصفه بأنه «الراعي الرسمي» للرشوة في مصر. أحد كبار رجال الأعمال أكد ل «الدستور» أنه لم يضطر للجوء إلي استخدام الرشوة في تسيير أعماله لأنه «صاحب مبدأ» - علي حد تعبيره - ومهما استغرقت الموافقات من وقت فليس لديه مشكلة لأن الموضوع لا يستحق، ولكنه عاد في حديثه ليؤكد أنه يتحدث عن الرشاوي الكبري مثل قضية مرسيدس، ولكن رشاوي الموظفين فهذه رشاوي عادية ومستمرة لا تمثل شيئاً و«طبيعية»، ويقول إنها أحيانا لا تأخذ الشكل المالي أو المادي فقد يقوم بتعيين أحد الأشخاص القريبين من موظف أو مسئول ما وهذا الموظف في النهاية لو لديه أوراق أو ملفات ما تحتاج الموافقة عليها سوف يسهل ذلك، فتصدر في خلال عدة أيام بدلا من انتظارها لشهر أو أكثر. وعما إذا كان تأثير نفوذه كرجل أعمال يجعله يتجنب استخدام الرشوة قال إن اسمه الكبير ونفوذه أحيانا يجعل الموظف يخشي طلب رشوة خوفا من أن نفوذه كرجل أعمال وعضو بجمعيات مستثمرين قد يجعله يضره، وقال إن الأمر يختلف بالطبع حينما يكون الشخص يدفع للحصول علي موافقة هي من حقه ولكنه يرغب في الحصول عليها بسرعة أكبر وبين آخر ينشئ مصنعا دون الحصول علي موافقات أو رخص تشغيل فهذا يختلف عن ذلك والأخير يضطر للاستمرار في دفع الرشاوي لأنه في وضع غير قانوني وإن لم يدفع لن يستمر. رجل أعمال آخر يقول إن منطق الرشوة يعني أن تأخذ حق شخص آخر وهذا حرام ويغضب ربنا ومهما كان ما سيحققه من فلوس «تغور في داهية» لأن الأصل هو الحلال والحرام، ويري من وجهة نظره أنه حينما يدفع مقابلاً للحصول علي موافقة من حقه ويكون مجبرًا أن يدفع للحصول عليها فهذا حلال بينما لو شيء ليس من حقه فهذا حرام كأن يقوم بدفع رشوة لمسئول حتي تتم ترسية إحدي المناقصات عليه مثلما حدث في رشوة مرسيدس والتي يري أن الحكومة تقاعست عن التحقيق فيها منذ أن تم الإعلان عنها، ويري أن حل هذه الأزمة هو رفع رواتب الموظفين ومحاسبتهم بقوة إذا خالفوا. رجل أعمال ثالث يري أن الفساد والرشوة انتشرت في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت مضي وتعكس أن الشعور العام لديهم كرجال أعمال أن الفساد منتشر وأنه لن يتمكن من إنهاء مصالحه إلا بدفع رشاوي، فالإنجاز مقابل الإنجاز، وحينما يريد الحصول علي رخصة لابد أن يقدم هدية ما أو تسهيلات من أي نوع سواء مادي أو معنوي، لأن الموظف النظيف أصبح نادرا، إضافة إلي أن الظروف المعيشية صعبة جدا وتجعل من يسير في السليم ينحرف، أما فساد كبار المسئولين فهو علي حد قوله «فساد الشبعانين» والذي يختلف عن فساد الغلابة، ذلك لأن المسئولين الشبعانين هم موظفون علي أعلي مستوي ومنهم علي سبيل المثال من وجدوا خلال تنفيذ برنامج الخصخصة وعمليات التقييم التي شابها علامات استفهام ببعض الشركات، ويؤكد رجل الأعمال أنه يضطر لدفع رشاوي باستمرار لإنهاء أعماله، قائلا إن الرشوة هي رشوة سواء إذا كانت لتسهيل الحصول علي حقه أم لا، طالما شخص ما ساومه علي حقه فهي رشوة، ولكنه في بعض الأحيان يقدم «إكرامية» لموظف أو أكثر ساعده في إنهاء عمله دون أن يطالب بمقابل لذلك. ويعتقد رجل الأعمال أن الفساد والرشوة خلال العشر سنوات الأخيرة قد ازدادت بشكل كبير جدا عن أي فترة سابقة وهو يقر بذلك بوصفه يعمل كرجل أعمال منذ حوالي 30 عاما ودخل في منظمات رجال أعمال وجمعيات مستثمرين، معتبرا أن الرشوة انتشرت بشكل لم يعد له حل، ويؤكد أن من حصلوا منه علي رشاوي ليس منهم من شبع نهائيا قائلا «مافيش حد أخذ مني رشوة وقنع.. دائما عطشان علي طول مهما أخذ لا يشعر بالشبع». هذه آراء رجال الأعمال ولكن رغم اختلاف التبريرات تبقي الرشوة هي الرشوة والأمثلة كثيرة سواء تلك التي ساقتها الصدف ليتم الكشف عنها محليا أو تلك التي تم الكشف عنها من خلال منظمات أجنبية ودول أخري. وبالنظر للسنوات العشرين الأخيرة علي سبيل المثال تطفو علي سطح الوزارات المصرية فضائح ورشاوي شهيرة انتهت أغلبها بأحكام قضائية ذهبت بكثير من الوزراء إلي سجن طرة ومنهم محيي الدين الغريب - وزير المالية الأسبق - بتهمة تسهيل تهريب عدد من رجال الأعمال من دفع الضرائب المستحقة عليهم للدولة قدرها 10 ملايين جنيه مقابل حصوله علي رشاوي وهدايا تجاوزت المليون جنيه قبل أن يبرأه القضاء لاحقا، وهناك أيضاً قضية وزير السياحة الأسبق توفيق عبده إسماعيل أهم اللاعبين في القضية الشهيرة «نواب القروض» حيث ثبت بالتحقيقات مساعدته غير القانونية لعدد من رجال الأعمال في الحصول علي قروض من البنوك دون ضمانات مما سهل الاستيلاء علي أكثر من مليار جنيه من أموال البنوك المصرية التي هي بالنهاية أموال مصريين، وكذلك قضية ماهر الجندي - محافظ الجيزة الأسبق - الذي قضي 7 سنوات بالسجن لإدانته بتلقي هدايا ورشوة بلغت قرابة المليون جنيه مقابل تسهيل بيع قطعة أرض من أملاك الدولة مساحتها 130 فدانًا بطريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوي لشركة الأهرام للتنمية السياحية والعقارية والتي يمتلكها المتهم الثاني عمرو خليفة، ومن الجيزة لوزارة الزراعة، حيث اشترك عدد من المسئولين بها في عهد يوسف والي علي رأسهم وكيل أول الوزارة يوسف عبد الرحمن في تقديم تسهيلات غير قانونية لسيدة الأعمال راندا الشامي وشركائها لإنشاء شركة استيراد وهمية سميت ب «البورصة الزراعية» حصلت علي امتياز لم تحصل عليه غيرها من استيراد مبيدات وضخها لمخازن الجمعيات الزراعية التابعة للوزارة بجميع قري مصر لنكتشف بعد ذلك وببساطة أنها «مبيدات مسرطنة». وهكذا لعبت الرشوة دورها في انتشار أمراض الكبد والسرطان بصورة واسعة في مصر خلال الفترة الماضية، ومن الزراعة إلي الصحة لم يختلف الأمر كثيرا مع الكشف عن قضية شركة «هايدلينا» لصاحبها رجل الأعمال والبرلماني السابق هاني سرور والتي ما زالت أوراقها داخل القضاء رغم صدور حكم أولي بالحبس ثلاث سنوات لما ثبت من شبهة تورط مسئولين بوزارة الصحة في إرساء إحدي المناقصات العامة علي شركة توريد المستحضرات الطبية «هايدلينا» دون مطابقتها للمواصفات وهي ما عرفت إعلامياً بقضية «أكياس الدم الملوثة» ومن جديد لعبت بعض الآلاف أو الملايين دورها في تلويث دم وأجساد آلاف المصريين، ومن الصحة للإسكان والتي صدر فيها حكم بداية هذا العام قضي بسجن أشرف محمد كمال، مساعد نائب رئيس هيئة تنمية المجتمعات العمرانية الجديدة وهو بالمناسبة عضو أمانة السياسات بالحزب الوطني بالسجن المشدد 5 سنوات والغرامة 800 ألف جنيه لاتهامه بتلقي 5 ملايين جنيه رشاوي، مقابل تخصيص أراضٍ في المشروع القومي لإسكان الشباب في محافظة 6 أكتوبر التي قيل عنها إنها جاءت من أجل دعم الشباب ومحدودي الدخل فقط لا غير فذهبت من خلال جيوب المسئولين لرجال الأعمال وتم في القضية نفسها إدانة «عمرو خليفة» رجل الأعمال صاحب الشركة التي حصلت علي الأرض بصورة غير شرعية، وفي وزارة الثقافة قضت محكمة جنايات القاهرة نهاية العام الماضي بالسجن عشر سنوات للرجل الثاني بوزارة الثقافة الذي تقلد العديد من المناصب داخل الوزارة أيمن عبد المنعم - مدير مكتب الوزير والمشرف علي صندوق التنمية الثقافية ومدير مشروع القاهرة الفاطمية -، بعد إدانته بتقاضي وإعطاء رشاوي مقابل إسناد مشروعات للمتهمين من رجال الأعمال وأوضحت النيابة أن مساعد الوزير طلب مبالغ مالية من خالد حسن - رجل أعمال - مقابل إسناد مشروع تطوير مسرح الهناجر للفنون بدار الأوبرا إلي شركته، والأخير قام بتنفيذ جانب من التشطيبات الخاصة بالوحدة السكنية المملوكة لأيمن عبد المنعم بمارينا بالساحل الشمالي. أما علي المستوي الدولي فقد لعب القضاء الخارجي دوره في فضح كثير من الممارسات المنحرفة.. رجال أعمال أجانب مع مسئولين مصريين ومع المليار الأول كانت الرشوة الأولي، ففي خطاب بمجلس الشعب عام 1975 وقبل سفره لمؤتمر جنيف قال الرئيس السادات: إن السلام مهم لتدفق الاستثمارات الأجنبية في مصر وأعلن عن بدء استثمارات مصرية - إيرانية بحوالي مليار جنيه وبعد سنوات كانت الفضيحة، حيث كشفت قيادات الثورة الإسلامية في إيران عن تورط مسئولين مصريين في تلقي رشاوي من أجل حجب جزء من الأرباح لصالح مسئولين إيرانيين سافروا للعيش في مصر، وكذلك فعلت صحيفة النيويورك تايمز عام 1976 عندما نشرت تحقيقًا كبيرًا بعنوان «لقد بدأت الرشاوي وراء البحار» وكشفت خلاله عن صفقة أجرتها شركة «لوكهيد الأمريكية» في عدة دول متقدمة ونامية كان علي رأسها مصر والبرازيل والتي لم يتم الكشف عنها حينها ولكن فتح الملف مرة أخري عام 1989 وخلالها اعترف المدير التنفيذي للشركة بدفع 45 مليون دولار كرشاوي داخل مصر. وبعد إنشاء منظمة الشفافية الدولية فاحت رائحة الصفقات المشبوهة، وصدر علي سبيل المثال تقرير عن المنظمة «الذمة المالية للشركات العالمية» أشار إلي تورط 132 شركة متعددة الجنسيات في أعمال غير مشروعة في عدد كبير من دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ولم يذكر التقرير الدول بصورة مفصلة ولكنه ركز علي الشركات ونشاطها ومن خلال مراجعة أسماء هذه الشركات تكتشف أن عددًا كبيرًا له أعمال كبري في مصر مثل شركة «لي لي» للأدوية وهي الشركة التي خاطبت لجنة المقاطعة في نقابة الصيادلة وزارة الصحة بشأنها في عام 2001 وعلقت علي منح أكاديمية البحث العلمي لهذه الشركة حق تسويق عقار خاص بالفصام العقلي واحتكاره في السوق المصرية رغم أن اتفاقية «التريبس» لم تكن سارية علي الدول النامية إلي حينها، وليس البعد الاقتصادي فقط ولكن للبعد السياسي كما صرح حينها محمود عبد المقصود الذي كان يرأس لجنة المقاطعة بنقابة الصيادلة حيث أشار إلي ضرورة مقاطعة هذه الشركة التي تتبرع بجزء كبير من أرباحها لتطوير المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ومن نفس القائمة تجد شركة «هاينز» التي عقدت معها وزارة الزراعة العام الماضي بمشاركة الوكالة الأمريكية للتنمية «هيئة المعونة الأمريكية في مصر» اتفاقًا بانضمام 8000 مزارع مصري إلي سلسلة إنتاج الشركة من الطماطم علي أن تشارك الوكالة الأمريكية ب 7 ملايين دولار لدعم هذه الصفقة والمزارعين المصريين وبرغم الصيغة الودية للصفقة فقد ذكر تقرير صادر عن مركز الأرض أننا أمام صفقة احتكارية ستؤدي إلي تحكم شركة هاينز في الأسعار التي تشتري بها من المزارعين وستحرم المصانع المصرية العاملة في هذا المجال من حصص الطماطم التي كانت تحصل عليها من الأسواق المصرية لأغراض التصنيع المحلي. وهكذا مع استمرار وتراكم ظاهرة «رشوة رجال الأعمال للمسئولين الكبار في مصر» أصبحت لها سمات ومميزات خاصة رصدتها الباحثة سهير عبد المنعم - الخبيرة بالمركز القومي للبحوث - في بحث أعدته حول تطور الفساد الوظيفي خلال الخمسين عاما الأخيرة تقدمت به لمؤتمر «التغيرات الاجتماعية في مصر» وقد حصلت علي درجة الدكتوراه عن تطور جرائم الرشوة في مصر وأكدت فيه أن معظم قضايا الفساد خلال الفترة من الثمانينيات حتي 2006 تتسم بأن قضاياها معقدة ومركبة وتتضمن أكثر من عمولات وسمسرة ونصب علي البنوك والأفراد وشركات توظيف الأموال وقضايا كبار الموظفين ورجال الأعمال أمثال عصمت السادات وتوفيق عبدالحي ورشاد عثمان وقضايا النفوذ الوظيفي مثل عبد الوهاب الحباك وممدوح الليثي وغيرهما، واكتشفت أن معظم قضايا الفساد تتميز بوجود أطر شبكية منظمة بعضها عائلي وتستمد قوتها من النفوذ الخاص أو النفوذ الوظيفي وهي عادة ما تسمي قضايا الفساد الكبري والتي يشكل فيها الفساد الخطر الحقيقي علي المجتمع وليس مجرد قضايا الرشوة الصغري التي يتقاضي فيها بعض الموظفين الصغار مئات الجنيهات، مشيرة إلي أن الإحصائيات التي تخرج من وزارة الداخلية لا تتحدث عن زيادة في حجم جرائم الفساد وتؤكد تراجع المعدلات بالرغم من أن كل الشواهد والمؤشرات تقول عكس ذلك، لذلك لم يكن من الممكن أن تعتمد في دراستها علي هذه الإحصائيات فقط وكان لابد من الرجوع إلي الواقع المعاش نفسه. وقالت إنه في عام 1986 أجري المركز القومي للبحوث مسحا حول مشكلات المجتمع المصري «القيمية» وقتها واتضح فيه أن جرائم الرشوة والاتجار بالنفوذ والمحاباة من المشكلات المهمة التي تواجه المجتمع المصري ويشعر بوطأتها الجميع وبشكل عام فإن السبعينيات والثمانينيات شهدت ظهور ما يعرف بالجريمة الاقتصادية حيث ظهرت لأول مرة جرائم الهروب بأموال القروض.. ودراسة الفترة من 1974 حتي 1990 أكدت أن أكثر أنواع القضايا بروزا في تلك الفترة كانت تقاضي الرشوة.. والحصول علي عمولات وهو ما عكس أن الفساد وصل إلي الموظفين الصغار أو موظفي أدني السلم الوظيفي.. وفي الترتيب الثاني بعد العمولات تأتي قضايا تسهيل الاستيلاء علي المال العام وبالذات في قطاعات البنوك وهذا النوع يسمي الفساد الكبير.. وأظهرت الدراسات أن هناك طابعا جماعيا للفساد.. وأن الشركات الأجنبية تستخدم الرشاوي والعمولات لتسهيل عملها.. وفي ذات الدراسة وجدوا أن هناك إشارة لاهتزاز قيمة العمل المنتج لدي المصريين فضلا عن اختلال النسق القيمي لهم وضعف هيبة الدولة وتراخي قبضتها عن المال العام. وفي مرحلة ما قبل الثورة وجدت أن ثورة يوليو جعلت أحد أهدافها هو «القضاء علي الفساد» لكن الواقع يقول إنه لم يكن هناك فساد علي المستوي الإداري ففي سنة 1935 مثلا لم يكن هناك سوي 21 جريمة رشوة واختلاس من بين 7415 جريمة حدثت في مصر كلها، وفي سنة 1945 لم يكن هناك سوي 16 جريمة رشوة، و29 جريمة اختلاس من بين 8400 جريمة، وفي سنة 1950 لم تقع سوي 14 جريمة رشوة و15 جريمة اختلاس.. ومع ذلك رفعت الثورة شعار التطهير. وفي الستينيات شهدت نموا كبيرا في أعداد الموظفين بعد أن تبنت الدولة الحل الاشتراكي.. لذلك زاد عدد الموظفين بنسبة 134% خلال عشر سنوات وبعد أن كان لدينا 350 ألف موظف وقت قيام الثورة أصبح لدينا 1.2 مليون موظف في بداية الستينيات وهؤلاء الموظفون كانوا من الطبقات الوسطي والمنخفضة الذين أتيحت لهم فرص الصعود ولكنهم تبنوا تصورات وطموحات «برجوازية واستهلاكية» أي أنهم أرادوا أن يقلدوا الطبقات الأعلي التي تم القضاء عليها.. والدراسات التي أجريت عن هذه الفترة أرجعت فساد الموظفين إلي سوء الإدارة والإهمال والتسيب والاعتماد علي أهل الثقة لا أهل الكفاءة.. بالإضافة إلي سوء الظروف الاقتصادية وزيادة حجم الطبقة الوسطي.. ولذلك سنجد أنه في عام 1964 تم تأسيس عدة أجهزة رقابية منها الجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية.. بالإضافة إلي أنه في عام 1965 تم تنظيم الرقابة علي الهيئات والمؤسسات العامة بالقانون 44، والملاحظة الأساسية طوال فترة الستينيات أن جرائم اختلاس المال العام تفوق بكثير جرائم الرشوة أو استغلال النفوذ. وفي السبعينيات والثمانينيات زادت هذه الجرائم، والموظف الذي فسد في السبعينيات كان موجودا أيضا في الستينيات ولكن هذه الطبقة البيروقراطية رسخت أقدامها واستأثرت بالسيطرة، والانفتاح أوجد طبقات انتهازية من الطفيليين والسماسرة والوسطاء وهؤلاء كانوا يشترون الموظفين لتسهيل مصالحهم.. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية عام 1976 وتصاعد عجز الموازنة وزيادة الاقتراض من الخارج وما استتبعه ذلك من ضغوط دولية علي مصروكل هذه التناقضات أدت إلي عدم استيعاب الأفراد للمتغيرات وهو ما يؤثر في تكيفهم مع المجتمع ويضعف من فكرة المصلحة العامة.. والدراسات التي أجريت علي هذه الفترة أشارت إلي انتشار جريمة الكسب غير المشروع بصفة عامة مما يعني تضخم الثروات من خلال اتباع أساليب مجافية للقيم الأخلاقية والاجتماعية. وذهبت الدراسة للقول بأنه كلما كان الفساد كبيرا انخفضت شدة العقاب، بمعني أن هناك بعض التشريعات تسهم في تكريس الفساد وأنه كلما كان الفساد كبيرا كان العقاب أقل، فالموظف الذي يختلس أو يأخذ رشوة مثلا ألف جنيه لا يمكن أن يهرب من العقوبة ولابد أن تقام عليه الدعوي العمومية.. في حين أن من يقترض من البنوك مئات الملايين ويهرب بها ثم يعود ويتصالح تسقط عنه الدعوي العمومية وبذلك يكون القانون منحازا بشكل أو بآخر، وهذا ما جعل المؤتمرات الدولية تصف هؤلاء الفاسدين بأنهم المجرمون الذين لا يصل إليهم القانون لأنهم محميون بوظائفهم العليا، وقانون الجهاز المركزي للمحاسبات توجد به مثلا مادة تمنع من يجد عنده شبهة في جريمة فساد من الإبلاغ أو التحقيق دون الحصول علي إذن من الوزير المختص الذي غالبا ما لا يعطي هذا الإذن لعدم مواءمة الظروف. في حين أن الموظف الصغير الذي يحصل علي 10 آلاف جنيه رشوة لا يحتاج إلي هذا الإذن وتتم محاكمته فورا، في حين أننا لو نظرنا إلي القانون الأمريكي مثلا سنجد أنه يتم استبعاد الموظف بمجرد الاشتباه ويتم عزله دون الانتظار لانتهاء التحقيق كما يحدث عندنا. وذهبت الدراسة إلي أن القانون 44 لسنة 88 لا يلزم الجهاز المركزي للمحاسبات بإخطار الجهات القضائية إلا بالحصول علي إذن من الوزير المختص، الأمر الذي جعل الأممالمتحدة تنادي بضرورة تطبيق المبادئ الإرشادية التي أقرها المجتمع السياسي لمواجهة الفساد بأهمية إعادة النظر في القوانين المنظمة للأعمال الاقتصادية بحيث تضمن الوقاية من الوقوع في الجرائم وبحيث لا نشجع الفساد علي أن ينتشر ويكبر وهنا يصبح غير قابل للعقاب، ومعظم قضايا الفساد ترتبط بالوظيفة ولا يمكن أن يصل فيها الفاسد إلا بالتحالف مع المستويات العليا بالإدارة وكلما كان الفساد كبيرا كان العقاب أقل. وقالت إن بعض الدول خاصة أمريكا مثلا اكتشفت أن طول الأمد في الوظيفة يؤدي إلي استغلالها لذلك لا تسمح بوجود أحد في مكان أو منصب معين لمدة طويلة حتي لا يخلق مجموعة من المصالح.