«التاريخ يكتبه المنتصرون»، جيلنا حفظ من الكتاب المدرسى أن عبد الناصر هو أول رئيس عرفته مصر، وبعد ذلك بدأنا نكتشف الحقيقة، وهى أن اللواء محمد نجيب أول مصرى اعتلى الكرسى فى 53، فى ذلك الزمن كان من الممكن أن تخفى الوقائع لأن وسائل الإعلام كانت كلها تحت السيطرة، بالطبع هناك كُتب ووثائق وموجات إذاعية من خارج الحدود تنشر الوثيقة، لكن على المقابل كانت الدولة قادرة على أن تضع أسوارًا حولها تحول دون تسريب ما لا تريد انتشاره، لم نكن قد عرفنا بعد عصر التواصل الاجتماعى بمعناه العصرى، نعم كان عالم الإعلام الشهير مارشال ماكلوهان قد أطلق صيحته مع بزوغ الموجات اللاسلكية قبل نحو قرن من الزمان بتلك المقولة «العالم الآن صار قرية صغيرة»، بالتأكيد كان أملًا وحلمًا ممكنًا أنجبته تلك الموجات، ولهذا ظلت الدول التى نصفها بالعالم الثالث تعتبر أن ما تذيعه هو فقط الحقيقة، عبد الناصر رفض التصريح بعرض فيلم «الله معنا» الذى كان يتناول لحظة انطلاق ثورة 23 يوليو إلا بعد حذف شخصية نجيب من الشريط، ولم يجرؤ أحد على ذكر هذه الحقيقة إلا مع بداية عصر السادات. من الممكن أن أتفهم تدخل السلطة فى قلب الحقائق، لكن ما استوقفنى هو أن المجتمع يمارس أحيانًا هذا الدور ويفرض هو الحقيقة التى يريدها، قال لى الكاتب والمخرج الكبير إبراهيم الموجى إن جريدة «الجمهورية» عندما أعادت نشر مذكرات بديع خيرى فى السبعينيات، وذلك مع بدايات تمكين التيار الدينى تم تغيير واقعة ذكرها بديع فى مذكراته فى الخمسينيات على صفحات نفس الجريدة، قال بديع إنه كان يشعر بالخوف قبل أول لقاء جمعه ونجيب الريحانى، وحتى يكتسب قدرًا من الشجاعة ذهب إلى بار مجاور لمسرح الريحانى، واحتسى كأسين من الويسكى، لكن الجرعة فى ما يبدو زادت على المعدل، فوصل بديع إلى مرحلة الانتشاء، وهو ما ساعده على أن ينطلق أكثر فى لقائه مع الريحانى، ليكونا معا أهم ثنائى درامى فى تاريخنا الفنى. وبديع كان هو العمق الاستراتيجى لكل من العبقرتين سيد درويش فى الموسيقى ونجيب الريحانى فى المسرح والسينما، بصماته فى تأليف الأوبريتات مع سيد درويش ومسرحيات وأفلام الريحانى تشهد أن القدر كان كريمًا معنا عندما منحنا فى مطلع القرن العشرين هؤلاء الثلاثة الكبار، لكننا أغفلنا قيمة هذا الرجل أمام بريق درويش والريحانى. لكن ليس هذا هو ما أردت أن أتحدث عنه هذه المرة، لكن الحقيقة وعلاقتها وتشابكها مع الزمن، هل نحن نكتب بالفعل الحقيقة التى حدثت أم ما نعتقد أنه يرضى الناس؟
حيث إن الجريدة عندما أعادت نشر الواقعة فى السبعينيات جعلته يتوجه إلى أقرب زاوية ويصلى ركعتين قبل لقائه بالريحانى ليكتسب الشجاعة.
عندما تكتشف مثلًا أن دار الأوبرا عندما تعيد تقديم التراث الغنائى القديم فيتولى الرقيب الإضافة والحذف بما يعتقد أنه يرضى المجتمع، وهكذا مثلا يتم تغيير كلمات طقطوقة غنائية كتبها للمفارقة أيضا بديع ولحنها سيد درويش تقول «شفتى بتاكلنى أنا فى عرضك خليها تسلم على خدك»، صارت (مهجتى) بدلا من (شفتى)، وفى الجزء الأخير بدلا من (أنا فى عرضك) تُصبح (خليها يا روحى أمانة عندك)، أو فى قصيدة عبد الحليم «لست قلبى» (قدر أحمق الخطى) تصبح على العكس تمامًا (قدر أحكم الخطى)، مثلا أغنية «فطومة» التى لحنها محمد فوزى، وكان تقول كلماتها «فطومة ماشية فى الموسكى، وأنا كنت شارب الويسكى»، والمفروض أنه خواجة لم يستطع مقاومة جمال فطومة، ولا يجد بأسًا من أن يشرب كأسًا، وعندما أعاد تقديمها حميد الشاعرى قبل خمسة عشر عامًا أحالها إلى (بيبسى)، مراعاة لرقابة المجتمع.
إننا جميعًا وربما دون أن ندرى نمارس تلك الرقابة، وربما على حقائق عشناها، حتى بديع خيرى فى تسجيل تليفزيونى أتصوره الوحيد الذى يحتفظ به التليفزيون المصرى مع الراحلة سلوى حجازى سألته عن واقعة لقائه مع نجيب الريحانى لأول مرة لم يذكر أبدًا أنه أخذ كأسين لزوم الشجاعة، لكنه أيضًا لم يضف أنه صلى ركعتين فى أقرب زاوية.