حقيقة رسوب 71% من طلال أولى طب بقنا و80% بأسنان في جامعة جنوب الوادي    برعاية رئيس مجلس الوزراء |حوار مع الشباب بالحقائق والأرقام    أخبار كفر الشيخ اليوم.. مدرس يهدي طالبتين من أوائل الجمهورية بالثانوية سبيكة ذهبية عيار 24    «500 ألف كيس طحين».. حاجة ملحة لسكان غزة أسبوعيًا في ظل عدم انكسار المجاعة    ضياء رشوان: مجازفة كبيرة لعبور الشاحنات من معبر كرم أبو سالم حتى ساحل غزة    بن شرقي: فخور بتواجدي مع الأهلي.. والجماهير أبهرت الجميع في المونديال    الطقس غدًا.. أجواء شديدة الحرارة على أغلب الأنحاء والعظمى بالقاهرة 40 درجة    أحمد سعد: الناس بتحب شكل المطرب يبقى غريب والجمهور مستني "لوك" مختلف    انطلاق مؤتمر جماهيري حاشد بقنا لدعم مرشحة الجبهة الوطنية وفاء رشاد في انتخابات الشيوخ    أسباب تأخر إعلان الحد الأدنى للمرحلة الأولى لتنسيق الجامعات 2025    إعلام عبري: إصابة 8 جنود إسرائيليين بجروح خطيرة في قطاع غزة    التعليم العالي توجه نصيحة للمتفوقين بالثانوية العامة قبل بدء تنسيق المرحلة الأولى    بوفون ينتصر في معركته مع باريس سان جيرمان    وزير الطيران المدني يشارك في فعاليات مؤتمر "CIAT 2025" بكوريا الجنوبية    دار الإفتاء: السبت غرة شهر صفر لعام 1447 هجريًّا    المشاط: 15.6 مليار دولار تمويلات تنموية للقطاع الخاص في 5 سنوات    الصيادلة: سحب جميع حقن RH المغشوشة من الأسواق والمتوافر حاليا سليم وآمن بنسبة 100%    تخفيض أسعار تذاكر صيف الأوبرا 2025 في إستاد الأسكندرية احتفالاً بالعيد القومي للمحافظة    مقتل 12 شخصا على الأقل في اشتباك حدودي بين تايلاند وكمبوديا    الكويت الكويتي يعلن تعاقده مع سام مرسي    جمال الكشكى: دعوة الوطنية للانتخابات تعكس استقرار الدولة وجدية مؤسساتها    الرئيس الإيراني: نواجه أزمة مياه خانقة في طهران    السبت أول أيام شهر صفر لعام 1447ه    ترحيل محمد عبد الحفيظ المتهم بحركة "حسم" خارج تركيا    الداخلية تنظم دورة تدريبية في الغوص والإنقاذ النهري    تطورات صفقة انتقال حامد حمدان للزمالك .. سر وعد جون إدوارد للاعب الفلسطيني (خاص)    وفاة المصارع الأمريكي هوجان    "تناغم بين البرتقالي والأبيض".. منة فضالي بإطلالة صيفية جريئة على اليخت    هنادي مهنا تنتهي من تصوير حكاية "بتوقيت 28"    خالد الجندي: مساعدة الناس عبادة.. والدنيا ثمَن للآخرة    هل يحاسب الإنسان على المحتوى المنشور على السوشيال ميديا؟ أمين الفتوى يجيب    هل لمبروك عطية حق الفتوى؟.. د. سعد الهلالي: هؤلاء هم المتخصصون فقط    مغربي جديد على أعتاب الزمالك.. من هو أيمن ترازي صفقة الأبيض المحتملة؟    "الصحة" تتخذ خطوات للحد من التكدس في المستشفيات    جولة مفاجئة لوكيل صحة المنوفية.. ماذا وجد فى مستشفى حميات أشمون؟    لخفض ضغط الدم- 5 أشياء احرص عليها قبل النوم    «خطافة رجالة».. غفران تكشف كواليس مشاركتها في مسلسل فات الميعاد    جلسة خاصة لفيريرا مع لاعبي الزمالك قبل المران    رفع 50 طن نواتج تطهير من ترع صنصفط والحامول بمنوف    شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    أردوغان: نسير بثبات لنصبح قوة مؤثرة بالمنطقة والعالم    تشغيل كامل لمجمع مواقف بني سويف الجديد أسفل محور عدلي منصور    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    «جمال الدين» يستعرض إمكانات «اقتصادية قناة السويس» أمام مجتمع الأعمال بمقاطعة تشجيانغ    غدًا.. "شردي" ضيفًا على معرض بورسعيد الثامن للكتاب    وزير التعليم العالي يكرم الطلاب الفائزين في مسابقة "معًا" لمواجهة الأفكار غير السوية    تعرف على خطوات تصميم مقاطع فيديو باستخدام «الذكاء الاصطناعي»    أمين الفتوى: لا يجوز التصرف في اللقطة المحرّمة.. وتسليمها للجهات المختصة واجب شرعي    الأمم المتحدة: الحرمان من الغذاء في غزة يهدد حياة جيل كامل    «سعد كان خاين وعبد الناصر فاشل».. عمرو أديب يرد على منتقدي ثورة 23 يوليو: "بلد غريبة فعلا"    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    وزير الأوقاف: فيديوهات وبوسترات لأئمة المساجد والواعظات لمواجهة الشائعات والأفكار غير السوية بالمجتمع    الرئيس الصيني: نسعى لتعزيز الثقة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي رغم الخلافات    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    بالأسماء.. إصابة ووفاة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارتين بمحور ديروط فى أسيوط    صاحب مغسلة غير مرخصة يعتدي على جاره بسبب ركن سيارة بالإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد عادل القضابى يكتب: رحلة إلى البيت العتيق
نشر في الدستور الأصلي يوم 11 - 10 - 2013

استخدم أبناء إسماعيل عليه السلام بناء الكعبة للتأريخ لأيامهم.. وأرّخت قريش بعام الفيل والمسلمون بالهجرة

ظل البيت معمورًا وعلى حاله حتى طوفان نوح عليه السلام فنسفه

يذهب عدد من الروايات فى تأريخه للبيت العتيق إلى أنه كان موجودًا قبل أن يخلق الله السماوات والأرض

لا يمكن بأى حال من الأحوال اعتبار مشهد طواف جموع وحشود من المسلمين بالكعبة المشرفة، فضلا عن الملايين التى تحتشد فى الحرم المكى، سواء فى موسم الحج أو بغرض العمرة، وقبل هذا وذاك توجه المصلين والساجدين فى مختلف بقاع الأرض صوب البيت المعمور، خمس مرات يوميا على الأقل، مجردَ شعائر وأركان دينية فقط، الأمر يتجاوز ذلك بكثير ليعكس صورة روحية عن حكمة الخالق وتدابيره لأقدار البشر والشعوب. إن دلالة تأكيد القرآن الكريم أن البيت الحرام بمكة المكرمة، كان أول بيت وضع للناس، إنما يكشف عمق تأثير ذلك البيت فى تاريخ البشر، وارتباطهم به، ما توجته الرسالة المحمدية بجعل الحج إليه لمن استطاع إليه سبيلا، أحد أركان الإسلام الخمسة، ومن ثم بات قبلة لكل المشتاقين للقرب من الله، وللمشتاقين للأمن والآمن والحماية وصفاء الروح وغسل الذنوب ومضاعفة الأجر والثواب. ورغم المكانة العظمى للبيت العتيق فى نفوس المسلمين حول العالم، على اختلاف ألسنتهم وأجناسهم، فإن كثيرين منهم لا يعرفون شيئا عن تاريخه، ومراحل تطوره، وكيفية بنائه، أو الحكمة منها، ومن ثم تصدت العديد من الدراسات البحثية منذ قديم الأزل لمحاولة جلاء كل ما يتعلق بالكعبة المشرفة وتاريخ البيت الحرام. وكان من بين تلك الدراسات المهمة «موسوعة البيت العتيق» من تأليف أحمد عادل القُضَّابى، والتى ستنشرها «التحرير» فى حلقات مسلسلة، على أمل تقديم صورة مركزة ومعمقة عن أشرف بقعة على ظهر الأرض. الحلقات ستتناول استنادا إلى الموسوعة تاريخ البيت العتيق منذ بدء الخليقة وحقيقة تعدد مرات بناء الكعبة وما صاحب ذلك من سير الحج إليها وكيفية دخول الأصنام إلى الحرم. بينما سيشار بشىء من التفصيل إلى عمارة وهندسة البيت المعمور، وإلى كسوة الكعبة وكل ما تعلق بها من تفاصيل تاريخية أو فنية. فضلا عن قصة المحمل، وأشهره المحمل المصرى، وغيره من المحامل الأخرى كالمحمل السورى والمحمل العثمانى.. كما ستشير الحلقات إلى السدانة والسدنة وتاريخهما قبل الإسلام وعبر عصوره المختلفة، فضلا عن وصف الآثار والأماكن المقدسة التى ترتبط بالبيت العتيق وعملية الحج، ناهيك بتناول المناسك.

الأماكن ليست بلا ذاكرة، بل إن ذاكرتها أكثر حفظًا من ذاكرة الإنسان نفسه، فالإنسان ينسى، والأماكن لا تنسى، وتوالى الأزمان على الأماكن هو ذاكرتها وتاريخها، فتبقى الذاكرة خاصة بصاحبها، ويصبح التاريخ عامًا مشتركًا نتعاطى منه ما يتواتر إلينا، وما دوِّن منه وما نقلته لنا الآثار والروايات. فالتاريخ كما قال القدماء عمود اليقين.. مبيد الشكوك.. به تثبت الحقوق وتحفظ العهود، وتاريخ كل شىء غايته ووقته الذى ينتهى إليه، وهو إثبات الشىء.

والمكان الذى نشد إليه الرحال فى رحلتنا التاريخية هو البيت العتيق، رحل إليه قبلنا الكثيرون، وإليه تشد الرحال قصدًا، فيكون حجا، وإليه تشد الرحال شوقًا وحنينًا، وإليه شدت الرحال طلبًا للأمن والأمان لأنه الحرم.. حرم الله فى الأرض وحماه. ولهذا وصف البيت بالحرام، وجعل ما حوله حرما أمنا لمن قصده، وإلحاق صفة العتيق بالبيت دون صفة القديم للدلالة على الحدثين داخل الزمان، فالقديم كما يرى التوحيدى هو من لا بداية له، وهذا ما تعرفه العرب.

والعتيق، حسب الزمخشرى فى «أساس البلاغة»، كريم الوجه، وبه عُلل وصف البيت بالعتيق، فى «الأمكنة والمياه والجبال»، لكرمه.

وقد استخدم أبناء إسماعيل عليه السلام بناء الكعبة للتأريخ لأيامهم (السيوطى، الدر المنثور، ج1، 1993)، كما أرخت قريش بعام الفيل، وأرّخ المسلمون بالهجرة.

وتاريخ البيت العتيق هو تاريخ بناء الكعبة وإعادة البناء، ومما لا خلاف عليه بين المؤرخين أن الكعبة أعيد بناؤها عدة مرات، غير أن خلافهم ينحصر فى عدد المرات التى أعيد فيها البناء وفى أول بناءٍ لها. ويتفق جلهم على أنه أعيد بناؤها عشر مرات، وهم يزيدون وينقصون فى ذلك، فالفاسى يعدد هذه المرات العشر فى «شفاء الغرام» بأنها:

«ويتحصل من مجموع ما قيل فى ذلك أنها بنيت عشر مرات: منها بناء الملائكة عليهم السلام، ومنها بناء آدم عليه السلام، ومنها بناء لأولاده، ومنها بناء الخليل إبراهيم عليه السلام، ومنها بناء العمالقة، ومنها بناء جرهم، ومنها بناء قصى بن كلاب، ومنها بناء قريش، ومنها بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدى رضى الله عنه، ومنها بناء الحجاج بن يوسف الثقفى» (الفاسى، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ج1، 1956، ص 91).

ويتفق مع ذلك رشدى صالح ملحس، محقق كتاب «أخبار مكة» للأزرقى، ويزيد فى العدد إلى إحدى عشرة مرة، إذ يقول:

«حصلنا مما أوضحه الأزرقى واتفق عليه المؤرخون الآخرون: أن الكعبة بنيت عشر مرات وهى (1) بناية الملائكة (2) بناية آدم (3) بناية شيث (4) بناية إبراهيم وإسماعيل (5) بناية العمالقة (6) بناية جرهم (7) بناية قصى (8) بناية قريش (9) بناية الزبير (10) بناية الحجاج.

قلنا: وقد بنيت للمرة الحادية عشرة عام 1039 هجرية فى عهد السلطان مراد بن السلطان أحمد من سلاطين آل عثمان» (الأزرقى، أخبار مكة وما جاء بها من الآثار، ج1، 1399ه/1979م، ص 355).

كذلك أكد القطبى عدد المرات مع الحفاظ على الترتيب ذاته (القطبى، إعلام العلماء الأعلام ببناء المسجد الحرام، 1403ه/1983م).

ويذكر ول ديورانت فى «قصة الحضارة» مثل ذلك، إذ يقول:

«ومن المعتقدات الشائعة أن الكعبة بنيت ثم أعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها فى فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها فى المرة الثانية آدم أبو البشر، وفى المرة الثالثة ابنه شيث، ثم بناها فى المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر... وبناها فى المرة السابعة قصى زعيم قبيلة قريش، وبناها فى المرة الثامنة كبار قريش فى حياة محمد {عليه الصلاة والسلام}(605)، وبناها فى المرتين التاسعة والعاشرة زعماء المسلمين عامى 681 و696» (ول ديورانت، قصة الحضارة، مج7، ج 13، 2001م، ص 18)

البدايات

وتذهب بعض الروايات فى تأريخها للبيت العتيق إلى أنه كان موجودًا قبل خلق الله السماوات والأرض، فيحكى الأزرقى فى كتابه «أخبار مكة» الذى يُعد المصدر الأول والرئيس عن بناء الكعبة أنها كانت «غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بأربعين سنة ومنها دحيت الأرض» (الأزرقى، 1399ه/1979م، ص 355). ويروى السيوطى: «وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس قال وضع البيت على أركان الماء على أربعة قبل أن تخلق الدنيا بألفى عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت» (السيوطى، ص 308). وقد ناقش الطبرى هذا الرأى فى تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ} (سورة آل عمران، الأية: 96)، فذكر أن العلماء اختلفوا فى صفة وضعه أوّل، فقال بعضهم: إن البيت خُلِق قبل جميع الأرضين، ثم دْحِيَت الأرض من تحته. واستدلوا على ذلك بأخبار منها ما روى عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنه أنه قال: «خلق الله البيت قبل الأرض بألفى سنة، وكان إذا كان عرشه على الماء، زِبْدَةً بيضاء، فَدُحيت الأرض من تحته» (الطبرى، تفسير الطبرى، ج4، 1990م، ص 6)، وما روى عن مجاهد: «إن أوّل ما خلق الله الكعبة، ثم دَحَى الأرض من تحتها» (الطبرى، نفسه). وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: خلقت الكعبة قبل الأرض بألفى سنة. فقالوا: كيف خلقت قبل وهى من الأرض؟ قال: كانت حشفة (خيمة يابسة) على الماء عليها ملكان يسبحان الليل والنهار ألفى سنة، فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها فى وسط الأرض (السيوطى، ص 115).

البيت قبل إبراهيم عليه السلام

فى البدء نسب كثير من المؤرخين البناية الأولى للكعبة إلى الملائكة بأمر من الله عز وجل، لكن هذه الآراء لا تستند إلى خبر صحيح يمكن الوثوق به فيما ذهبوا إليه، فقد روى الأزرقى بسنده فى رواية طويلة عن محمد بن على بن الحسين، أن الله سبحانه وتعالى بعث الملائكة إلى الأرض وقال لهم أبنوا لى بيتًا فى الأرض على مثال البيت المعمور، ثم أمر الله من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. ويذكر عبد الكريم القطبى مثله دون إسناد. أما الفاسى، فيذكر بناء الملائكة للكعبة نقلا عن الأزرقى، ويستدل عليه بما ذكر النووى فى تهذيب الأسماء واللغات، غير أنه يعود فيقرر أن خبر هذا البناء غير ثابت الصحة.

«وخلاصة ما جاء فى بناء الملائكة للكعبة المشرفة لا يتعدى أن يكون خبرًا ليس عليه دليل، بل هو مجرد قول للعلماء، ولا يصح أن يُبنى عليه حكم فى هذا الشأن» (شبالة، 2008م، ص 83).

ثم ثنى المؤرخون ببناية آدم عليه السلام للكعبة، واعتمدوا على روايات منها: «رواية تفرد بها ابن لهيعة فى نسبتها إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: ((بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لى بيتا فخط لهما جبريل فجعل آدم وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودى من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت. ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد فيه))» (الخربوطلى، تاريخ الكعبة، 1424ه/2004م، ص 13)، ومنها ما روى فى «الدر المنثور»، أن آدم قال: أى رب ما لى لا أسمع أصوات الملائكة!! فقال له الله: لخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض فابن لى بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتى الذى فى السماء.

أما الأزرقى فذكر فى رواية مطولة عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما تاب على آدم عليه السلام أمره أن يسير إلى مكة وطوى له الأرض طيًّا حتى بلغ مكة فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة وضعها له موضع الكعبة، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة فيها ثلاثة قناديل من ذهب الجنة، ونزل معها الحجر الأسود وكان يومئذ ياقوتة بيضاء.

والفاسى يروى فى ذلك خبرًا مرفوعًا من كتاب دلائل النبوة للبيهقى، ولفظه:

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لى بيتا فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء فنودى من تحته: حسبك يا آدم فلما بناه الله إليه أن تطوف به، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه. قال البيهقى تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعًا» (الفاسى، ص91).

وقد ذكر عبد الكريم القطبى «أن آدم عليه السلام إنما بنى أساس الكعبة حتى ساوى وجه الأرض ولعل ذلك بعد اندثار ما بنته الملائكة بأمر الله تعالى أولا» (القطبى، ص 38)» وأنه بناه من خمسة جبال من لبنان وطور زيتا والجودى وحراء حتى استوى على وجه الأرض» (القطبى، نفسه). وفكرة البناء من خمسة جبال التى فى النص لا تبدو عقلية لتباعد الجبال المذكورة فى الرواية السابقة، اللهم إلا أن تكون الملائكة هى التى أعانته على جلب هذه الأحجار من الجبال الخمسة المذكورة فى الرواية، ولعله كان بناءً واحدًا لآدم عليه السلام وعاونته فيه الملائكة.

ويؤكد أحد شيوخ سدنة الكعبة المعظمة، هو محمد صالح بن أحمد بن زين العابدين الشيبى العبدرى الحجبى، المتوفى سنة 1335ه، أن بناء الكعبة قبل إبراهيم عليه السلام قد ذكره المؤرخون على روايات مختلفة كلها فى حاجة إلى إثبات وتحقيق (الحجبى، 1405ه/1984م). ورواية الحافظ ابن كثير فى تفسيره لا تخالف ذلك، إذ تقول:

«أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء عن عطاء بن أبى رباح قال لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم يأنس إليهم فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله فى دعائها وفى صلاتها فخفضه الله تعالى إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله فى دعائه وفى صلاته فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام فبناه» (ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، 1401ه، ص 180).

وبهذا لا نجد رواية أو خبرا يقطع ببناء آدم عليه السلام للكعبة، فليس من بين الأخبار والروايات التى عرضنا لها نصٌ قطعى الثبوت.

أما بناء أبناء آدم للكعبة على ما ذكر بعض المؤرخين فقد ذكر الأزرقى أن بعد موت آدم عليه السلام رفعت الياقوتة الحمراء التى وضعت على أساس البيت الحرام، وبنى أبناء آدم مكانها الكعبة من الطين والحجارة، وظل البيت معمورًا حتى طوفان نوح عليه السلام فنسفه (القطبى، ص 39). أما بناء ابنه شيث لها على ما ذكر البعض الآخر فلم ترد روايات فى كتاباتهم تنص على كون البانى شيث نفسه، فرواياتهم تحكى أن البانى أبناء آدم عليه السلام (الحجبى، ص 97). ويحكى الأزرقى رواية عن ابن عباس أن نوح عليه السلام ومن معه فى السفينة قد وجههم الله إلى مكة فدارت السفينة بالبيت العتيق أربعين يومًا قبل أن تستقر على الجودى (الأزرقى، ص 52).

وقد أخفى موضع البيت عن الناس بعد الطوفان، وكما قال الأزرقى: «وكان موضعه أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت هنالك... وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ... وكان الناس يحجون إلى موضع البيت» (الأزرقى، ص 53). كما يروى الأزرقى بسنده مرفوعًا عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان النبى من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيتعبد فيها النبى ومن معه حتى يموت فيها، فمات بها نوح، وهود، وصالح وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر» (الأزرقى، ص 68). وهذه الرواية عن توجه الأنبياء عليهم السلام للبيت العتيق بينما بين نوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام، قال عن مثلها ابن كثير فى «البداية والنهاية»، إنها رواية غريبة حين ذكر ما رواه البعض عن حج نبى الله صالح إلى البيت، ولعل ابن كثير قال بغرابة هذه الرواية ومثلها انطلاقًا من رأيه بأن البيت لم يكن موجودًا قبل رفع إبراهيم عليه السلام لقواعده (ابن كثير، البداية والنهاية، ج1، 1418ه/1998م، ص 167و170).

وقد كان الحافظ ابن كثير قد قال فى «البداية والنهاية» وفى تفسيره للقرآن الكريم، وفى «السيرة النبوية» ما خالف به المشهور عند المؤرخين من أن البيت العتيق قد بُنى قبل إبراهيم عليه السلام، إذ يقول:

«ولم يجىء فى خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام ومن تمسك فى هذا بقوله مكان البيت بناهض ولا ظاهر لأن المراد مكانه المقدر فى علم الله المقر فى قدرته المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة وأن الملائكة قالوا له قد طفنا بهذا البيت وأن السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بنى إسرائيل وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتجّ بها فأما إن ردها الحق فهى مردودة» (ابن كثير، البداية والنهاية، ج1، ص 167).

ولو كان البيت العتيق موجودًا قبل زمان إبراهيم عليه السلام لذكر لنا القرآن شيئًا من ذلك، ولبينته السنة الصحيحة بخبره، ولعل ابن كثير رفض بعض الأخبار المرفوعة وقال بغرابتها من هذا الوجه. وهو الرأى الذى يؤيده إبراهيم باشا رفعت الذى أشار إلى أن أول بناية مؤكدة للكعبة هى بناية إبراهيم الخليل لها. وفى الواقع نحن لا نستطيع أن نجزم بصحة الروايات القائلة ببناء الكعبة قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وفى الوقت ذاته لا نستطيع أن نكذبها أو نتجاهلها (على، المسجد الحرام بمكة ورسومه فى الفن الإسلامى، 1420ه/2000م).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.