وزارة المالية تعلن عن وظائف جديدة (تعرف عليها)    هذا أنا مذكرات صلاح دياب: حكاية جورنال اسمه «المصرى اليوم» (الحلقة الثالثة)    المستشار عبد الرزاق شعيب يفتتح صرحا جديدا لقضايا الدولة بمدينة بورسعيد    زيادة كبيرة ب920 للجنيه.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الارتفاع التاريخي    تباين في أسعار الخضروات بأسواق مطروح.. والبامية والليمون تكسران حاجز ال 80 جنيهًا    أرباح إيسترن كومبانى تنمو 36% خلال 9 أشهر.. بدعم 27 مليار جنيه إيرادات    تويوتا RAV4 موديل 2026 تعتمد على نظام السيارة الهجينة القابلة للشحن    بعد استهداف الوفد الدبلوماسي، كندا تستدعي السفير الإسرائيلي وتطالب بالمحاسبة    تحركات أوروبية ودولية تجاه غزة.. خبراء ل "الفجر": الدعم رمزي والمطالبات بتفعيل الضغط على إسرائيل    بعد تأهل توتنهام.. 3 فرق إنجليزية تضمن المشاركة في دوري أبطال أوروبا    ميدو يكشف تطورات أزمة الزمالك وعبدالله السعيد.. ويوجه رسالة ل إمام عاشور    «استمرار الأول في الحفر حتى خبط خط الغاز».. النيابة تكشف مسؤولية المتهم الثاني في حادث الواحات    بالأسماء.. مصرع وإصابة 4 طلاب في حادث تصادم موتسكلين| صور    ضبط 7 عمال أثناء التنقيب عن الآثار بمنزل في سوهاج    ننشر أسماء المصابين في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالعريش في شمال سيناء    سامر المصري: غياب الدراما التاريخية أثَّر على أفكار الأجيال الجديدة    محافظ الدقهلية: 1522 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية ابو ماضي مركز بلقاس    إجراء طبي يحدث لأول مرة.. مستشفى إدكو بالبحيرة ينجح في استئصال رحم بالمنظار الجراحي    رئيس جنوب أفريقيا: نرحب بالاستثمارات الأمريكية ونتوقع زيارة من ترامب    القبة الذهبية Vs القبة الحديدية.. مقارنة بين درعي حماية أمريكا وإسرائيل من الصواريخ    بأجر كامل.. تفاصيل إجازة امتحانات العاملين في قانون العمل الجديد    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بأسبوع المطبخ التركي    الهلال يتمم المقاعد.. الأندية السعودية المتأهلة إلى دوري أبطال آسيا للنخبة    الدوري الأوروبي، مدرب مانشستر يونايتد يكشف أسباب الخسارة أمام توتنهام    الاقتصاد الأخضر نحو الاستدامة (ج1)    نشرة التوك شو| لا توجد أوبئة للدواجن في مصر وافتتاح أكبر سوق جملة أكتوبر المقبل    «تعليم القاهرة» تنشر نموذج امتحان مادة الهندسة المستوية للشهادة الإعدادية 2025    اليوم.. انطلاق امتحانات نهاية العام لصفوف النقل بالمحافظات    توقعات حالة الطقس اليوم الخميس    بعد صدور لائحته التنفيذية.. عقوبة اصطحاب كلب دون ترخيص    استشهاد 5 فلسطينيين في قصف للاحتلال الإسرائيلي على "جباليا" شمال غزة    مسلم ينشر صورًا جديدة من حفل زفافه على يارا تامر    كندا تطالب إسرائيل بتحقيق معمّق في واقعة إطلاق النار على دبلوماسيين بالضفة الغربية    مراسم تتويج توتنهام بلقب الدوري الأوروبي للمرة الثالثة فى تاريخه.. فيديو وصور    محافظ الغربية يُشيد بابنة المحافظة «حبيبة» ويهنئها لمشاركتها في احتفالية «أسرتي.. قوتي».. صور    باختصار.. أهم الأخبار العربية والعالمية حتى الظهيرة.. العالم يدين إطلاق الجيش الإسرائيلى النار على الوفد الدبلوماسى بجنين.. وحظر تصدير الأسلحة إلى الاحتلال والتهدئة فى الهند وأوكرانيا والتفاوض مع إيران    لحظة وصول بعثة بيراميدز إلى جوهانسبرج استعدادا لمواجهة صن داونز (صور)    في الجول يكشف آخر تطورات إصابة ناصر ماهر    بعد مطاردة بوليسية.. ضبط سيارة تهرب 8 آلاف لتر بنزين قبل بيعها في السوق السوداء بدمياط    حريق هائل في مطعم مأكولات سورية بالإسكندرية وإنقاذ 10 طلاب داخل سنتر مجاور    الهلال ينجو من خسارة جديدة في الدوري السعودي    "من أجل المنتخبات".. ورش عمل لتطوير مسابقات الناشئين 24 و25 مايو    كيف تغلبت ياسمين صبري على التصميم الجريء لفستانها في مهرجان كان؟ (صور)    عادات المليونيرات.. 4 مفاتيح مالية يتجاهلها معظم الناس (تعرف عليها)    ياسمين صبرى فى العرض الخاص لفيلم the history of sound بمهرجان كان السينمائى    28 يونيو.. ماجدة الرومي تحيي حفلا غنائيا في مهرجان موازين بالمغرب    أسماء بنات على «فيسبوك» توحي بالثقة والقوة.. تعرف عليها    اليوم.. العرض المسرحي "العملية 007" على مسرح قصر ثقافة بورسعيد    كيف كان مسجد أهل الكهف وهل المساجد موجودة قبل الإسلام؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل به شبهة ربا؟.. أمين الفتوى يحسم حكم البيع بالتقسيط وزيادة السعر (فيديو)    وزير الزراعة يرد على جدل نفوق 30% من الثروة الداجنة في مصر    وزير الزراعة يحسم الجدل حول انتشار وباء الدواجن في مصر    محافظ الدقهلية: 1522 مواطنا استفادوا من القافلة الطبية المجانية ب«بلقاس»    كواليس خروج مسمار 7 سم من رأس طفل بمعجزة جراحية بالفيوم -صور    وزير الصحة يستجيب لاستغاثة أب يعاني طفله من عيوب خلقية في القلب    وزارة الأوقاف تنشر نص خطبة الجمعة بعنوان "فتتراحموا"    رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق: أيام الحج فرصة عظيمة لتجديد أرواح المسلمين.. فيديو    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد عادل القضابى يكتب: رحلة إلى البيت العتيق
نشر في الدستور الأصلي يوم 11 - 10 - 2013

استخدم أبناء إسماعيل عليه السلام بناء الكعبة للتأريخ لأيامهم.. وأرّخت قريش بعام الفيل والمسلمون بالهجرة

ظل البيت معمورًا وعلى حاله حتى طوفان نوح عليه السلام فنسفه

يذهب عدد من الروايات فى تأريخه للبيت العتيق إلى أنه كان موجودًا قبل أن يخلق الله السماوات والأرض

لا يمكن بأى حال من الأحوال اعتبار مشهد طواف جموع وحشود من المسلمين بالكعبة المشرفة، فضلا عن الملايين التى تحتشد فى الحرم المكى، سواء فى موسم الحج أو بغرض العمرة، وقبل هذا وذاك توجه المصلين والساجدين فى مختلف بقاع الأرض صوب البيت المعمور، خمس مرات يوميا على الأقل، مجردَ شعائر وأركان دينية فقط، الأمر يتجاوز ذلك بكثير ليعكس صورة روحية عن حكمة الخالق وتدابيره لأقدار البشر والشعوب. إن دلالة تأكيد القرآن الكريم أن البيت الحرام بمكة المكرمة، كان أول بيت وضع للناس، إنما يكشف عمق تأثير ذلك البيت فى تاريخ البشر، وارتباطهم به، ما توجته الرسالة المحمدية بجعل الحج إليه لمن استطاع إليه سبيلا، أحد أركان الإسلام الخمسة، ومن ثم بات قبلة لكل المشتاقين للقرب من الله، وللمشتاقين للأمن والآمن والحماية وصفاء الروح وغسل الذنوب ومضاعفة الأجر والثواب. ورغم المكانة العظمى للبيت العتيق فى نفوس المسلمين حول العالم، على اختلاف ألسنتهم وأجناسهم، فإن كثيرين منهم لا يعرفون شيئا عن تاريخه، ومراحل تطوره، وكيفية بنائه، أو الحكمة منها، ومن ثم تصدت العديد من الدراسات البحثية منذ قديم الأزل لمحاولة جلاء كل ما يتعلق بالكعبة المشرفة وتاريخ البيت الحرام. وكان من بين تلك الدراسات المهمة «موسوعة البيت العتيق» من تأليف أحمد عادل القُضَّابى، والتى ستنشرها «التحرير» فى حلقات مسلسلة، على أمل تقديم صورة مركزة ومعمقة عن أشرف بقعة على ظهر الأرض. الحلقات ستتناول استنادا إلى الموسوعة تاريخ البيت العتيق منذ بدء الخليقة وحقيقة تعدد مرات بناء الكعبة وما صاحب ذلك من سير الحج إليها وكيفية دخول الأصنام إلى الحرم. بينما سيشار بشىء من التفصيل إلى عمارة وهندسة البيت المعمور، وإلى كسوة الكعبة وكل ما تعلق بها من تفاصيل تاريخية أو فنية. فضلا عن قصة المحمل، وأشهره المحمل المصرى، وغيره من المحامل الأخرى كالمحمل السورى والمحمل العثمانى.. كما ستشير الحلقات إلى السدانة والسدنة وتاريخهما قبل الإسلام وعبر عصوره المختلفة، فضلا عن وصف الآثار والأماكن المقدسة التى ترتبط بالبيت العتيق وعملية الحج، ناهيك بتناول المناسك.

الأماكن ليست بلا ذاكرة، بل إن ذاكرتها أكثر حفظًا من ذاكرة الإنسان نفسه، فالإنسان ينسى، والأماكن لا تنسى، وتوالى الأزمان على الأماكن هو ذاكرتها وتاريخها، فتبقى الذاكرة خاصة بصاحبها، ويصبح التاريخ عامًا مشتركًا نتعاطى منه ما يتواتر إلينا، وما دوِّن منه وما نقلته لنا الآثار والروايات. فالتاريخ كما قال القدماء عمود اليقين.. مبيد الشكوك.. به تثبت الحقوق وتحفظ العهود، وتاريخ كل شىء غايته ووقته الذى ينتهى إليه، وهو إثبات الشىء.

والمكان الذى نشد إليه الرحال فى رحلتنا التاريخية هو البيت العتيق، رحل إليه قبلنا الكثيرون، وإليه تشد الرحال قصدًا، فيكون حجا، وإليه تشد الرحال شوقًا وحنينًا، وإليه شدت الرحال طلبًا للأمن والأمان لأنه الحرم.. حرم الله فى الأرض وحماه. ولهذا وصف البيت بالحرام، وجعل ما حوله حرما أمنا لمن قصده، وإلحاق صفة العتيق بالبيت دون صفة القديم للدلالة على الحدثين داخل الزمان، فالقديم كما يرى التوحيدى هو من لا بداية له، وهذا ما تعرفه العرب.

والعتيق، حسب الزمخشرى فى «أساس البلاغة»، كريم الوجه، وبه عُلل وصف البيت بالعتيق، فى «الأمكنة والمياه والجبال»، لكرمه.

وقد استخدم أبناء إسماعيل عليه السلام بناء الكعبة للتأريخ لأيامهم (السيوطى، الدر المنثور، ج1، 1993)، كما أرخت قريش بعام الفيل، وأرّخ المسلمون بالهجرة.

وتاريخ البيت العتيق هو تاريخ بناء الكعبة وإعادة البناء، ومما لا خلاف عليه بين المؤرخين أن الكعبة أعيد بناؤها عدة مرات، غير أن خلافهم ينحصر فى عدد المرات التى أعيد فيها البناء وفى أول بناءٍ لها. ويتفق جلهم على أنه أعيد بناؤها عشر مرات، وهم يزيدون وينقصون فى ذلك، فالفاسى يعدد هذه المرات العشر فى «شفاء الغرام» بأنها:

«ويتحصل من مجموع ما قيل فى ذلك أنها بنيت عشر مرات: منها بناء الملائكة عليهم السلام، ومنها بناء آدم عليه السلام، ومنها بناء لأولاده، ومنها بناء الخليل إبراهيم عليه السلام، ومنها بناء العمالقة، ومنها بناء جرهم، ومنها بناء قصى بن كلاب، ومنها بناء قريش، ومنها بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدى رضى الله عنه، ومنها بناء الحجاج بن يوسف الثقفى» (الفاسى، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ج1، 1956، ص 91).

ويتفق مع ذلك رشدى صالح ملحس، محقق كتاب «أخبار مكة» للأزرقى، ويزيد فى العدد إلى إحدى عشرة مرة، إذ يقول:

«حصلنا مما أوضحه الأزرقى واتفق عليه المؤرخون الآخرون: أن الكعبة بنيت عشر مرات وهى (1) بناية الملائكة (2) بناية آدم (3) بناية شيث (4) بناية إبراهيم وإسماعيل (5) بناية العمالقة (6) بناية جرهم (7) بناية قصى (8) بناية قريش (9) بناية الزبير (10) بناية الحجاج.

قلنا: وقد بنيت للمرة الحادية عشرة عام 1039 هجرية فى عهد السلطان مراد بن السلطان أحمد من سلاطين آل عثمان» (الأزرقى، أخبار مكة وما جاء بها من الآثار، ج1، 1399ه/1979م، ص 355).

كذلك أكد القطبى عدد المرات مع الحفاظ على الترتيب ذاته (القطبى، إعلام العلماء الأعلام ببناء المسجد الحرام، 1403ه/1983م).

ويذكر ول ديورانت فى «قصة الحضارة» مثل ذلك، إذ يقول:

«ومن المعتقدات الشائعة أن الكعبة بنيت ثم أعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها فى فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها فى المرة الثانية آدم أبو البشر، وفى المرة الثالثة ابنه شيث، ثم بناها فى المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل ابنه من هاجر... وبناها فى المرة السابعة قصى زعيم قبيلة قريش، وبناها فى المرة الثامنة كبار قريش فى حياة محمد {عليه الصلاة والسلام}(605)، وبناها فى المرتين التاسعة والعاشرة زعماء المسلمين عامى 681 و696» (ول ديورانت، قصة الحضارة، مج7، ج 13، 2001م، ص 18)

البدايات

وتذهب بعض الروايات فى تأريخها للبيت العتيق إلى أنه كان موجودًا قبل خلق الله السماوات والأرض، فيحكى الأزرقى فى كتابه «أخبار مكة» الذى يُعد المصدر الأول والرئيس عن بناء الكعبة أنها كانت «غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السماوات والأرض بأربعين سنة ومنها دحيت الأرض» (الأزرقى، 1399ه/1979م، ص 355). ويروى السيوطى: «وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس قال وضع البيت على أركان الماء على أربعة قبل أن تخلق الدنيا بألفى عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت» (السيوطى، ص 308). وقد ناقش الطبرى هذا الرأى فى تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَٰلَمِينَ} (سورة آل عمران، الأية: 96)، فذكر أن العلماء اختلفوا فى صفة وضعه أوّل، فقال بعضهم: إن البيت خُلِق قبل جميع الأرضين، ثم دْحِيَت الأرض من تحته. واستدلوا على ذلك بأخبار منها ما روى عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنه أنه قال: «خلق الله البيت قبل الأرض بألفى سنة، وكان إذا كان عرشه على الماء، زِبْدَةً بيضاء، فَدُحيت الأرض من تحته» (الطبرى، تفسير الطبرى، ج4، 1990م، ص 6)، وما روى عن مجاهد: «إن أوّل ما خلق الله الكعبة، ثم دَحَى الأرض من تحتها» (الطبرى، نفسه). وعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: خلقت الكعبة قبل الأرض بألفى سنة. فقالوا: كيف خلقت قبل وهى من الأرض؟ قال: كانت حشفة (خيمة يابسة) على الماء عليها ملكان يسبحان الليل والنهار ألفى سنة، فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها فى وسط الأرض (السيوطى، ص 115).

البيت قبل إبراهيم عليه السلام

فى البدء نسب كثير من المؤرخين البناية الأولى للكعبة إلى الملائكة بأمر من الله عز وجل، لكن هذه الآراء لا تستند إلى خبر صحيح يمكن الوثوق به فيما ذهبوا إليه، فقد روى الأزرقى بسنده فى رواية طويلة عن محمد بن على بن الحسين، أن الله سبحانه وتعالى بعث الملائكة إلى الأرض وقال لهم أبنوا لى بيتًا فى الأرض على مثال البيت المعمور، ثم أمر الله من فى الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. ويذكر عبد الكريم القطبى مثله دون إسناد. أما الفاسى، فيذكر بناء الملائكة للكعبة نقلا عن الأزرقى، ويستدل عليه بما ذكر النووى فى تهذيب الأسماء واللغات، غير أنه يعود فيقرر أن خبر هذا البناء غير ثابت الصحة.

«وخلاصة ما جاء فى بناء الملائكة للكعبة المشرفة لا يتعدى أن يكون خبرًا ليس عليه دليل، بل هو مجرد قول للعلماء، ولا يصح أن يُبنى عليه حكم فى هذا الشأن» (شبالة، 2008م، ص 83).

ثم ثنى المؤرخون ببناية آدم عليه السلام للكعبة، واعتمدوا على روايات منها: «رواية تفرد بها ابن لهيعة فى نسبتها إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: ((بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لى بيتا فخط لهما جبريل فجعل آدم وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودى من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت. ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد فيه))» (الخربوطلى، تاريخ الكعبة، 1424ه/2004م، ص 13)، ومنها ما روى فى «الدر المنثور»، أن آدم قال: أى رب ما لى لا أسمع أصوات الملائكة!! فقال له الله: لخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض فابن لى بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتى الذى فى السماء.

أما الأزرقى فذكر فى رواية مطولة عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما تاب على آدم عليه السلام أمره أن يسير إلى مكة وطوى له الأرض طيًّا حتى بلغ مكة فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة وضعها له موضع الكعبة، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة فيها ثلاثة قناديل من ذهب الجنة، ونزل معها الحجر الأسود وكان يومئذ ياقوتة بيضاء.

والفاسى يروى فى ذلك خبرًا مرفوعًا من كتاب دلائل النبوة للبيهقى، ولفظه:

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لى بيتا فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء فنودى من تحته: حسبك يا آدم فلما بناه الله إليه أن تطوف به، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه. قال البيهقى تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعًا» (الفاسى، ص91).

وقد ذكر عبد الكريم القطبى «أن آدم عليه السلام إنما بنى أساس الكعبة حتى ساوى وجه الأرض ولعل ذلك بعد اندثار ما بنته الملائكة بأمر الله تعالى أولا» (القطبى، ص 38)» وأنه بناه من خمسة جبال من لبنان وطور زيتا والجودى وحراء حتى استوى على وجه الأرض» (القطبى، نفسه). وفكرة البناء من خمسة جبال التى فى النص لا تبدو عقلية لتباعد الجبال المذكورة فى الرواية السابقة، اللهم إلا أن تكون الملائكة هى التى أعانته على جلب هذه الأحجار من الجبال الخمسة المذكورة فى الرواية، ولعله كان بناءً واحدًا لآدم عليه السلام وعاونته فيه الملائكة.

ويؤكد أحد شيوخ سدنة الكعبة المعظمة، هو محمد صالح بن أحمد بن زين العابدين الشيبى العبدرى الحجبى، المتوفى سنة 1335ه، أن بناء الكعبة قبل إبراهيم عليه السلام قد ذكره المؤرخون على روايات مختلفة كلها فى حاجة إلى إثبات وتحقيق (الحجبى، 1405ه/1984م). ورواية الحافظ ابن كثير فى تفسيره لا تخالف ذلك، إذ تقول:

«أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء عن عطاء بن أبى رباح قال لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم يأنس إليهم فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله فى دعائها وفى صلاتها فخفضه الله تعالى إلى الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله فى دعائه وفى صلاته فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام فبناه» (ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، 1401ه، ص 180).

وبهذا لا نجد رواية أو خبرا يقطع ببناء آدم عليه السلام للكعبة، فليس من بين الأخبار والروايات التى عرضنا لها نصٌ قطعى الثبوت.

أما بناء أبناء آدم للكعبة على ما ذكر بعض المؤرخين فقد ذكر الأزرقى أن بعد موت آدم عليه السلام رفعت الياقوتة الحمراء التى وضعت على أساس البيت الحرام، وبنى أبناء آدم مكانها الكعبة من الطين والحجارة، وظل البيت معمورًا حتى طوفان نوح عليه السلام فنسفه (القطبى، ص 39). أما بناء ابنه شيث لها على ما ذكر البعض الآخر فلم ترد روايات فى كتاباتهم تنص على كون البانى شيث نفسه، فرواياتهم تحكى أن البانى أبناء آدم عليه السلام (الحجبى، ص 97). ويحكى الأزرقى رواية عن ابن عباس أن نوح عليه السلام ومن معه فى السفينة قد وجههم الله إلى مكة فدارت السفينة بالبيت العتيق أربعين يومًا قبل أن تستقر على الجودى (الأزرقى، ص 52).

وقد أخفى موضع البيت عن الناس بعد الطوفان، وكما قال الأزرقى: «وكان موضعه أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت هنالك... وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ... وكان الناس يحجون إلى موضع البيت» (الأزرقى، ص 53). كما يروى الأزرقى بسنده مرفوعًا عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان النبى من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيتعبد فيها النبى ومن معه حتى يموت فيها، فمات بها نوح، وهود، وصالح وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر» (الأزرقى، ص 68). وهذه الرواية عن توجه الأنبياء عليهم السلام للبيت العتيق بينما بين نوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام، قال عن مثلها ابن كثير فى «البداية والنهاية»، إنها رواية غريبة حين ذكر ما رواه البعض عن حج نبى الله صالح إلى البيت، ولعل ابن كثير قال بغرابة هذه الرواية ومثلها انطلاقًا من رأيه بأن البيت لم يكن موجودًا قبل رفع إبراهيم عليه السلام لقواعده (ابن كثير، البداية والنهاية، ج1، 1418ه/1998م، ص 167و170).

وقد كان الحافظ ابن كثير قد قال فى «البداية والنهاية» وفى تفسيره للقرآن الكريم، وفى «السيرة النبوية» ما خالف به المشهور عند المؤرخين من أن البيت العتيق قد بُنى قبل إبراهيم عليه السلام، إذ يقول:

«ولم يجىء فى خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام ومن تمسك فى هذا بقوله مكان البيت بناهض ولا ظاهر لأن المراد مكانه المقدر فى علم الله المقر فى قدرته المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة وأن الملائكة قالوا له قد طفنا بهذا البيت وأن السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بنى إسرائيل وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتجّ بها فأما إن ردها الحق فهى مردودة» (ابن كثير، البداية والنهاية، ج1، ص 167).

ولو كان البيت العتيق موجودًا قبل زمان إبراهيم عليه السلام لذكر لنا القرآن شيئًا من ذلك، ولبينته السنة الصحيحة بخبره، ولعل ابن كثير رفض بعض الأخبار المرفوعة وقال بغرابتها من هذا الوجه. وهو الرأى الذى يؤيده إبراهيم باشا رفعت الذى أشار إلى أن أول بناية مؤكدة للكعبة هى بناية إبراهيم الخليل لها. وفى الواقع نحن لا نستطيع أن نجزم بصحة الروايات القائلة ببناء الكعبة قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وفى الوقت ذاته لا نستطيع أن نكذبها أو نتجاهلها (على، المسجد الحرام بمكة ورسومه فى الفن الإسلامى، 1420ه/2000م).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.