عون: السعودية ساهمت في إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان    مئات الآلاف يواصلون تظاهراتهم في إسرائيل للمطالبة بوقف العدوان على غزة    الأغذية العالمي: نصف مليون فلسطيني في غزة على شفا المجاعة    النيابة تستعجل تحريات مقتل سيدة على يد زوجها أمام طفليها التوأم في الإسكندرية    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الاثنين 18 أغسطس    أرتفاع الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    إيران: احتمال اندلاع مواجهة جديدة مع إسرائيل قائم.. ونستعد لكل السيناريوهات    ممثل واشنطن لدى الناتو: حلف شمال الأطلسي لن يشارك في الضمانات الأمنية لأوكرانيا    ترامب يهاجم «وسائل الإعلام الكاذبة» بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    "أي حكم يغلط يتحاسب".. خبير تحكيمي يعلق على طرد محمد هاني بمباراة الأهلي وفاركو    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 18-8-2025 مع بداية التعاملات    حار رطب على أغلب الأنحاء.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين 18 أغسطس    «زمانك دلوقتي».. شذى تطرح أولى أغاني ألبومها الجديد    ياسين التهامي يوجه الدعوة لتأمل معاني الحب الإلهي في مهرجان القلعة    تامر عبدالمنعم: «سينما الشعب» تتيح الفن للجميع وتدعم مواجهة التطرف    وصفة مغذية وسهلة التحضير، طريقة عمل كبد الفراخ    أحمد إبراهيم يوضح موقفه من أزمة مها أحمد.. ماذا قال؟    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    مطاردة الواحات المميتة.. الداخلية والإعلام يضعان الجناة في قبضة العدالة    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    لو التكييف شغال مش بيبرد.. اعرف السبب والحل ودرجة الحرارة المثالية بدل وضع Fan    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    الأونروا: ما يحدث في قطاع غزة أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    السكة الحديد: تشغيل القطار الخامس لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة إلى البيت العتيق.. الحلقة «2»

بعد وفاة إبراهيم ظل البيت العتيق فى رعاية إسماعيل حتى وافته المنية ودُفن بالحَجر مع أمه فولى البيت بعده ثابت ولده

لا يمكن بأى حال من الأحوال اعتبار مشهد طواف جموع وحشود من المسلمين حول الكعبة المشرفة، فضلا عن الملايين التى تحتشد فى الحرم المكى، سواء فى موسم الحج أو بغرض العمرة، وقبل هذا وذاك توجه المصلين والساجدين فى مختلف بقاع الأرض صوب البيت المعمور، خمس مرات يوميا على الأقل، مجردَ شعائر وأركان دينية فقط، الأمر يتجاوز ذلك بكثير ليعكس صورة روحية عن حكمة الخالق وتدابيره لأقدار البشر والشعوب. إن دلالة تأكيد القرآن الكريم أن البيت الحرام بمكة المكرمة، كان أول بيت وضع للناس، إنما يكشف عمق تأثير ذلك البيت فى تاريخ البشر، وارتباطهم به، وهو ما توجته الرسالة المحمدية بجعل الحج إليه لمن استطاع إليه سبيلا، أحد أركان الإسلام الخمسة، ومن ثم بات قبلة لكل المشتاقين للقرب من الله، وللمشتاقين إلى الأمن والأمان والحماية وصفاء الروح وغسل الذنوب ومضاعفة الأجر والثواب. ورغم المكانة العظمى للبيت العتيق فى نفوس المسلمين حول العالم، على اختلاف ألسنتهم وأجناسهم، فإن كثيرين منهم لا يعرفون شيئا عن تاريخه، ومراحل تطوره، وكيفية بنائه، أو الحكمة منها، ومن ثم تصدى العديد من الدراسات البحثية منذ قديم الأزل لمحاولة جلاء كل ما يتعلق بالكعبة المشرفة وتاريخ البيت الحرام. وكان من بين تلك الدراسات المهمة «موسوعة البيت العتيق» من تأليف أحمد عادل القُضَّابى، التى ستنشرها «التحرير» فى حلقات مسلسلة، على أمل تقديم صورة مركزة ومعمقة عن أشرف بقعة على ظهر الأرض. الحلقات ستتناول استنادا إلى الموسوعة تاريخ البيت العتيق منذ بدء الخليقة وحقيقة تعدد مرات بناء الكعبة وما صاحب ذلك من سير الحج إليها وكيفية دخول الأصنام إلى الحرم. بينما سيشار بشىء من التفصيل إلى عمارة وهندسة البيت المعمور، وإلى كسوة الكعبة وكل ما تعلق بها من تفاصيل تاريخية أو فنية. فضلا عن قصة المحمل، وأشهره المحمل المصرى، وغيره من المحامل الأخرى كالمحمل السورى والمحمل العثمانى.. كما ستشير الحلقات إلى السدانة والسدنة وتاريخهما قبل الإسلام وعبر عصوره المختلفة، فضلا عن وصف الآثار والأماكن المقدسة التى ترتبط بالبيت العتيق وعملية الحج، ناهيك بتناول المناسك.

عندما ارتفع بناء البيت قرَّب إسماعيل لأبيه حجرًا سُمِّى فى ما بعد مقام إبراهيم

رفع إبراهيم عليه السلام للقواعد

تُجمع الروايات التاريخية أن إبراهيم عليه السلام ترك هاجر وولدها إسماعيل عليه السلام بوادى مكة، وهو وادى غير ذى زرع، مطلقًا دعوته الشهيرة: {رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (سورة إبراهيم: الآية 37)، ثم عاد إليهم فى إحدى زياراته لهم طالبًا ذبح ولده إسماعيل عليه السلام امتثالًا لرؤية رآها، فكان فداء إسماعيل عليه السلام بكبشٍ عظيم، ثم كان أمر رفع قواعد البيت العتيق، و«القواعد جمع قاعدة وهى السارية» (ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، ص 176).

أما كيف عرف إبراهيم عليه السلام موضع البيت، فهناك روايات كثيرة فى ذلك، منها ما ذكرها ابن كثير فى تفسيره:

«وقال السدى إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبنى البيت هو وإسماعيل ابنيا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت فبعث الله ريحا يقال لها الريح الخجوج لها جناحان ورأس فى صورة حية فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس» (ابن كثير، تفسير، ج1، ص 179).

ومنها ما قاله السيوطى فى «الدر المنثور»:

«وأخرج الديلمى عن على عن النبى فى قوله {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت} الآية قال جاءت سحابة على تربيع البيت لها رأس تتكلم ارتفاع البيت على تربيعى فرفعاه على تربيعها» (السيوطى، ص 307).

أما الأزرقى فيذكر رواية أخرى لتحديد مكان البيت، وهى: «حدثنا أبو الوليد قال: حدثنى جدى عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: بلغنى والله أعلم أن إبراهيم خليل الله تعالى عرج به إلى السماء فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها فاختار موضع البيت فقالت له الملائكة: يا خليل الله اخترت حرم الله تعالى فى الأرض قال: فبناه من حجارة سبعة أجبل قال: ويقولون خمسة وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم من تلك الجبال» (الأزرقى، ص 53).

وما يذكره الأزرقى يخالف القرآن الكريم، وما قال به المفسرون والمؤرخون من وجوه عدة، فإبراهيم عليه السلام أمر بالبناء ورفع القواعد فى المكان الذى اختاره الله عز وجل لذلك، ولم يختر هو ذلك المكان بنفسه، كما أن الذى ساعد إبراهيم عليه السلام فى البناء إسماعيل عليه السلام وليس الملائكة كما تحكى رواية الأزرقى.

ويروى الحافظ بن كثير فى تفسيره الكثير من الروايات المطولة والقصيرة حول بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للبيت العتيق، وفى رواية عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه يحكى كيف حدد مكان البيت لإبراهيم عليه السلام:

«قال بن جرير أخبرنا هناد بن السرى حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلًا قام إلى على رضى الله عنه فقال ألا تخبرنى عن البيت أهو أول بيت وضع فى الأرض فقال لا، لكنه أول بيت وضع فى البركة مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا، وإن شئت أنبأتك كيف بنى، إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لى بيتًا فى الأرض فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا، فأرسل الله السكينة وهى ريح خجوج، ولها رأسان فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوت على موضع البيت كطى الحجفة وأمر إبراهيم أن يبنى حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم» (ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، ص 179).

وكان إبراهيم عليه السلام يبنى وإسماعيل عليه السلام ينقل له الأحجار على عاتقه، وكان البناء يرتفع، فقرب له إسماعيل حجرًا يقف عليه ليطاول البناء، وهو الحجر الذى سمى فى ما بعد مقام إبراهيم وعليه أثر قدميه الكريمتين غائرتين فى الحجر.

وقد اختلفوا فى معنى قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (سورة البقرة، الآية: 127)، فاستدل منه بعضهم على أن البيت كان موجودًا قبل إبراهيم عليه السلام، وأن ما قام به إبراهيم ليس سوى البناء على الأساس. واستدل منه فريق آخر على أن إبراهيم عليه السلام شيد القواعد والبناء، وقد ذكر الشوكانى طرفًا من هذا فى «فتح القدير» إذ يقول: «ومعنى ترفع تبنى قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما ومنه قوله سبحانه {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}، وقال الحسن البصرى وغيره معنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار ورجحه الزجاج وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين» (الشوكانى، فتح القدير، ج4، ص 34).

وقال ابن الجوزى: «القواعد أساس البيت واحدها قاعدة» (ابن الجوزى، زاد المسير، ج1، ص 144)، وأضاف: «وقال ابن عباس وابن المسيب وأبو العالية رفعا القواعد التى كانت قواعد قبل ذلك» (ابن الجوزى، ص 145). وذكر القرطبى فى تفسيره أن القواعد هى الأساس كما فى قول أبى عبيدة والفراء، وحكى عن الكسائى أنها الجدر، والمعروف فى رأيه أنها الأساس.

والصحيح ما قال به الحافظ بن كثير من أن البيت العتيق قد بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو أول بناء للبيت ثابت بالنصوص القطعية الثبوت، والأخبار المتواترة والآثار، أما ما دون ذلك فهى أخبار وروايات ظنية الثبوت لا يمكن القطع بصحتها.

البيت ما بين إبراهيم عليه السلام وقريش

بعد وفاة إبراهيم عليه السلام، ظل البيت العتيق فى رعاية إسماعيل عليه السلام حتى وافته المنية، «ودفن بالحجر مع أمه فولى البيت بعده ثابت بن إسماعيل ونشر الله العرب من ثابت وقيدار فكثروا ونموا ثم توفى ثابت فولى البيت بعده جده لأمه مضاض بن عمرو الجرهمى وضم بنى ثابت فصار ملكًا عليهم وعلى جرهم فنزلوا قيقعان بأعالى مكة وكانوا أصحاب سلاح كثير ويتقعقع منهم، وصارت العمالقة وكانوا بازلين بأسفل مكة إلى رجل منهم ولوه ملكًا عليهم يقال له السميدع» (القطبى، ص 44و45).

ثم إن بنى إسماعيل عليه السلام وجرهم ضاقت عليهم مكة فتفسحوا فى البلاد يلتمسون عيشهم، ويزعم البعض تبعًا لرواية الأزرقى «أن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم إلا احتمل معه من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة وبالكعبة حيث ما حلوا وضعوه فطافوا به كالطواف بالكعبة حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة، حتى خلقت الخلوف بعد الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات» (الأزرقى، ص 116). كما يؤكد الأزرقى على أن أول من أدخل الأصنام إلى الكعبة هو عمرو بن لحى، وذلك من حديثٍ يرويه عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم. غير أن ما يهمنا فى هذا السياق هو أن الناس قد بعدوا عن دين إبراهيم عليه السلام، وغيروا وتغيروا عبر هذه الفترة الزمنية التالية لإبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام، وقد تولى على مكة والبيت العتيق خلال هذه الفترة الزمانية قبيلتان هما، جرهم ثم العمالقة، أو العمالقة ثم جرهم حسب بعض الروايات التاريخية، قبل أن تتولى قبيلة خزاعة أمر البيت العتيق. فالبيهقى يروى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه أن البيت انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم (شبالة، ص 95). كذلك روى الفاسى عن الأزرقى بسنده فى «أخبار مكة» ذات الرواية التى رواها البيهقى عن على بن أبى طالب (الفاسى، ص 93) كرم الله وجهه، مما قد يؤكد بعض الشىء سابقية بناء العمالقة على بناء جرهم للبيت العتيق خلال هذه الفترة الزمانية. وبه جزم الطبرى، «وذكر المسعودى ما يقتضى أن الذى بنى الكعبة من جرهم هو الحارث بن مضاض الأصغر لأنه لما ذكر خبرهم قال فيه: إن الحارث هذا زاد فى بناء البيت ورفعه كما كان عليه من بناء إبراهيم» (الفاسى، ص 94). ويذكر السهيلى فى «الروض الأنف» أن البيت العتيق بنته جرهم مرتين وصفة هذين البناءين الترميم والإصلاح لما سببه السيل للبيت (شبالة، ص96).

ويذكر إبراهيم باشا رفعت أن فى زمان سيادة جرهم للبيت، «جاء سيل جارف هدم الكعبة فبنته جرهم على قواعد إسماعيل، وكان البانى رجلًا يدعى أبا الجارود» (رفعت، مرآة الحرمين، ج1، 1401ه/1981م، ص 197)، وهى رواية تفارق الروايات السابقة التى تكاد أن تكون قد أجمعت على أن من أعاد بناء البيت من جرهم هو الحارث بن مضاض.

ويذكر القطبى أن خزاعة لما نازعت جرهم أمر ولاية مكة، قام مضاض بن عمرو الجرهمى ف«عمد إلى غزالتين من ذهب كانتا للكعبة، وما وجد من الأموال التى تهدى للكعبة فدفنها فى بئر زمزم، وكانت بئر زمزم قد نضب ماؤها. فحفرها بالليل، وأعمق ودفن فيها تلك الغزالتين، والأموال فحطم البئر، واعتزل جرهم، وأخذ معه بنى إسماعيل» (القطبى، ص 45) عليه السلام. ثم سادت الأمور لخزاعة إلى أن كبر شأن قصى بن كلاب بن مرة، وهو من بنى كنانة.

وبعد أن سادت أمور مكة لقصى بن كلاب بن مرة ولقريش، كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم عليه السلام على حد رأى الماوردى (الفاسى، ص 94)، ويذكر الفاسى: «أما بناء قصى بن كلاب فذكره الزبير بن بكار قاضى مكة فى كتاب النسب لأنه قال: وقال غير أبى عبيدة من قريش بن عبد العزى بن عمران العنبسى أخذ قصى فى بنيان البيت وجمع نفقته ثم هدمها فبناها بنيانًا لم يبن أحد ممن بناها مثله» (الفاسى، نفسه).

بناء قريش للبيت

يذكر ابن كثير فى سيرته روايةً تسرد لنا الأسباب التى دفعت بقريش لإعادة بناء البيت العتيق، والعوامل المحيطة بعملية البناء وتفاصيل هذه العملية، والتى منها الدور الحاسم الذى لعبه صلى الله عليه وسلم فى القضاء على الفتنة التى شبت بين القرشيين حول الحجر الأسود، إذ يقول ابن كثير:

«قال محمد بن إسحاق بن يسار فى السيرة ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه السلام خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، إنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة، إنما كان يكون فى بئر فى جوف الكعبة وكان الذى وجد عنده الكنز دويك مولى بنى مليح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطى نجار فهيأ لهم فى أنفسهم بعض ما يصلحها» (ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1، ص181).

وهذا النجار القبطى هو باقوم الذى ذكرته بعض الروايات ونصت عليه كما فى رواية الأزرقى، الذى جعل فى جدران الكعبة الداخلية صورًا صورها ولم تعترض عليها قريش إلى أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمحوها فى عام الفتح كما أكدت روايات كثيرة. ويتابع ابن كثير روايته فيذكر أمر الحية التى زعم أنها كانت تحمى جب (كنز) الكعبة، فيقول:

«وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتتشرق على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينما هى يومًا تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرًا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنيانها قام بن وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرًا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال يا معشر قريش لا تدخلوا فى بنيانها من كسبكم إلا طيبًا لا يدخل فيها مهر بغى ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس» (ابن كثير، نفسه).

وفى رواية أخرى أن الذى بدأ بالهدد قبل الوليد رجلًا لم تعينه الروايات باسمه، وأن يده شلت بعد أن حاول نزع حجر من الكعبة، فذكرت الرواية مثل ما قاله الوليد بن المغيرة من دعاء حتى بدؤوا نقضها، وهى رواية فيها الكثير من المبالغة، لأن الله يعلم ما فى الصدور، وهو يعلم من أراد مس بيته بسوء، ومن يريد تعميره، غير أنه يمكن قبول هذه الرواية وغيرها مما على شاكلتها، تحت ما يمكن تسميته بالخوف الميتافيزيقى من الأماكن المقدسة.

وقد واصلت قريش نقض حجارة الكعبة إلى أن وصلوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا، ويذكر ابن كثير فى روايته أن رجلًا من قريش أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضًا أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس. ويتابع ابن كثير روايته عن ابن إسحاق، فيقول:

«ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعنى الحجر الأسود فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب بن لؤى على الموت وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل رسول الله، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال هلم إلى ثوبٍ، فأتى به فأخذ الركن يعنى الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمى رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحى (الأمين)» (ابن كثير، نفسه).

ومن الأسباب التى دفعت بقريش للتفكير فى إعادة بناء الكعبة، ما ذكره الفاسى عن الحريق الذى أصابها حين جمرت، وكذلك السيل العظيم الذى دخلها وصدع جدرانها وكان سببًا حاسمًا فى وهنها (الفاسى، ص 95). ويروى الأزرقى خبرًا بسنده يذكر فيه «أن امرأةً ذهبت تجمر الكعبة فطارت من مجمرتها شرارة فاحترقت كسوتها وكانت ركامًا بعضها فوق بعض فلما احترقت الكعبة وهنت جدرانها من كل جانب وتصدعت وكانت الخرف الأربعة عليهم مظللة والسيول متواترة، ولمكة سيول عوارم فجاء سيل عظيم على تلك الحال فدخل الكعبة وصدع جدرانها وأخافهم ففزعت من ذلك قريش فزعًا شديدًا، وهابوا هدمها وخشوا أن مسوها أن ينزل عليهم العذاب» (الأزرقى، ص 160)، ثم انتهى بهم أمرهم إلى إعادة البناء كما ذكرنا فى رواية ابن كثير عن ابن إسحاق سابقًا، «فنقلوا الحجارة ورسول الله يومئذٍ غلام لم ينزل عليه الوحى ينقل معهم الحجارة على رقبته فبينما هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه فنودى يا محمد عورتك» (الأزرقى، 161)، ثم كان من أمر إتمام البناء دون وضع الحجر السود وقد تنافسوا عليه إلى أن صار الدم حكمًا بينهم، فعدلوا عن الدم إلى أول حكمٍ يدخل البيت عليهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كان أمر الحل التوفيقى الذى رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، «فرفع القوم الركن وقام النبى (صلى الله عليه وسلم) على الجدار ثم وضعه بيده فذهب رجل من أهل نجد ليناول النبى (صلى الله عليه وسلم) حجرًا ليشد به الركن، فقال العباس بن عبد المطلب: لا وناول العباس النبى (صلى الله عليه وسلم) حجرًا فشد به الركن فغضب النجدى حيث نحى فقال النجدى: واعجباه لقوم أهل شرف وعقول وسن وأموال عمدوا إلى أصغرهم سنا، وأقلهم مالًا فرأّسوه عليهم فى مكرمتهم وحوزهم كأنهم خدم له أما والله ليفوتنهم سبقًا وليقسمن عليهم حظوظًا وجدودًا ويقال: إنه إبليس» (الأزرقى، 164).

وقد نقصت قريش فى بنائها للبيت عما كان على بناء إبراهيم عليه السلام، لقلت نفقتهم الحلال التى أنفقوا منها على بناء البيت، وقد أكد هذا النقصان أكثر من خبر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.