بداية، تقع قرية دلجا جنوب مدينة المنيا بنحو 65 كيلومتر تقريبًا، وهى قرية تتبع مركز دير مواس بمحافظة المنيا، ويقطن بها نحو 120 ألف نسمة، يشكل المسيحيون منهم من 15 إلى 20 ألف نسمة تقريبًا، وبها 5 كنائس للطوائف المسيحية، مثل الأرثوذكس والكاثوليك والإنجيليين. قرية دلجا يعتمد معظم أهلها فى رزقهم وحياتهم اليومية على الزراعة، ومن يزورها ويدخل بيوتها، سوف يتأكد أن أهلها بالكاد يعيشون فهى قرية فقيرة جدًّا وأهلها بسطاء إلى أبعد حد.
قرية دلجا لم تتعرّض للاعتداء الطائفى فى الآونة الأخيرة فقط، بل كان هناك تاريخ من الاعتداءات الكثيرة فى السابق تلت أحداث ثوة 25 يناير، خصوصًا فى ظل حالة الانفلات الأمنى، تلك الاعتداءات تمثّلت فى عمليات الخطف والترويع للأقباط، كما تطورت تلك الأحداث تدريجيًّا لتصل إلى ذلك الحد الذى رأيناه فى الأحداث التى عقبت عملية فض اعتصام رابعة.
وخير دليل على ذلك هو اعتداء بعض المتشددين والإسلاميين على بيوت ومنازل الأقباط فى القرية عقب إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة وفوز الرئيس محمد مرسى، وهو ما أثار تعجّب الأقباط هناك، حيث سخر بعضهم من الموقف وقال لى «يعنى لما مرسى نجح ضربونا وكسروا بيوتنا، ولما سقط برضو ضربونا وكسروا بيوتنا.. طب نعملهم فيه إيه؟ لا ده عاجب ولا ده عاجب».
وفى أعقاب خطاب الفريق عبد الفتاح السيسى فى اليوم الثالث من شهر يوليو الماضى، تم الاعتداء على مبنى خدمات كنيسة الكاثوليك بالقرية وحرق سبعة منازل للمسيحيين من قبل المؤيدين للرئيس مرسى.
وهو ما دعا القائمين على خدمة الدير الأثرى بدلجا لوقف جميع النشاطات الكنسية وعدم فتح الدير إلا فى أوقات صلاة القداس، ومن ثَم غلقه إلى حين ميعاد الصلاة الأخرى.
وأما عن الأحداث الأخيرة بعد فض اعتصام رابعة بالقاهرة وفى غضون الساعة الثامنة صباحًا من يوم 14 أغسطس سمع أقباط القرية دعوات الجوامع للمسلمين للجهاد فى سبيل الإسلام والقصاص لدم إخوتهم الشهداء فى رابعة، وشهد الموقف فى تلك الأثناء توافد كثير من مسلمى القرية وتجمّعهم أمام الجامع ثم خروجهم فى مسيرة واحدة تجوب شوارع القرية وبدأت تلك المسيرات فى استهداف منازل الأقباط والكنائس وملحقاتها الموجودة بالقرية.
حيث تم الاعتداء على دير العذراء الأثرى الذى يرجع تاريخه إلى القرن الرابع الميلادى وكان توجد به أيقونات أثرية، منها أيقونة نادرة رسمت بيد القديس لوقا أحد تلاميذ السيد المسيح، للسيدة العذراء، وحامل أيقونات يرجع إلى القرن الرابع الميلادى منذ عهد بناء الكنيسة، وتتكوّن الكنيسة الأثرية من ثلاثة هياكل، الأوسط باسم السيدة العذراء مريم، والأيمن باسم القديس تكلا هيمانوت الحبشى، والأيسر باسم الملاك ميخائيل.
كما توجد كنيستان داخل حدود الدير الأولى باسم الشهيد مارجرجس، والأخرى على اسم الأنبا إبرام أسقف الفيوم والجيزة، وهو أحد قديسى العصر الحديث فى الكنيسة القبطية ومن مواليد القرية نفسها فى القرن الثامن عشر.
وعن تفاصيل الاعتداء، فكما أشار شهود العيان ومن الصور التى التقطت فى أثناء الاعتداء والفيديوهات إلى أن المعتدين كانوا نحو من ثلاثة إلى أربعة آلاف معتدٍ، قام بعض منهم بالقفز على سور الدير والتسلل منه إلى الداخل والبعض الآخر قام بخلع الباب الرئيسى للدير وسرقته، ومن ثَم تلى ذلك دخول المعتدين إلى داخل الدير.
مما هو واضح أن أسلوب الاعتداء هو نفس الأسلوب المتبع فى باقى الأماكن التى تعرّضت للهجوم سواء فى محافظة المنيا أو خارجها، فالترتيب كان هو:
1- الدفع بمجموعة تسرق وتستولى على كل ما هو موجود داخل المبانى الرئيسة سواء مبنى خدمات الكنيسة أو بيت الخلوة والكانتين والمكتبات وأيضا الكنائس الثلاث الموجودة فى الدير الأثرى والكنيسة المجددة حديثة وهى كنيسة الأنبا إبرام فى نفس التوقيت، حتى تم نهب كل شىء، ومما أثار استغرابى الشخصى أن المعتدين قاموا بفك الأرائك الخشبية المثبتة بأرضية كنيسة الأنبا إبرام وحملها على عربات الكارو وهو ما يثبت نيّة النهب حتى لما ثقل حمله.
2- بعد انتهاء المجموعة السابقة من أعمال النهب يأتى دور المجموعة الثانية، وهى صغيرة عددًا، وتقوم بإشعال الحرائق من أعلى المبانى إلى أسفلها تدريجيًّا حتى يتم حرق كل المبانى، بل وحراسة النار المشتعلة حتى يتم التأكد من عدم وجود أى محاولة للإطفاء من أى طرف.
لم تقتصر عمليات النهب والاعتداء والحرق على دير السيدة العذراء فقط، بل شملت جميع كنائس الطوائف الأخرى الكاثوليك والإنجيليين، كما تم الاعتداء على نحو 40 منزلًا من منازل أقباط القرية، ومن معاينتى للمنازل تبين لى أن المعتدين قاموا بالقفز من أعلى المبانى للوصول إلى منازل المسيحيين، وهو ما دعا أصحابها للفرار من وجه المعتدين خوفًا على حياتهم.
ومما هو شائع أن لكل عائلة «بوابة» وهى عبارة عن منطقة لعائلة واحدة تجمع عددًا من المنازل تقطن بها أسر تلك العائلة وتغلق من الخارج بباب واحد ويتخللها ممر على جانبيه، فلذلك من الصعب الدخول لتلك البوابات، لذلك قام المعتدون بالتسلل من خلال المبانى المجاورة، وثم فتح تلك البوابات وتحطيم أبواب المنازل ثم القيام بعمليات النهب، وكما أشار أصحاب تلك المنازل إلى أنهم سرقوا كل الأجهزة والأثاث الموجود، كما سرقوا كل المواشى والطيور التى يملكها أصحاب تلك المنازل وبعد ذلك قاموا بحرق كل شىء، حتى إننى رأيت من خلال معاينتى للمنازل بعض الدجاج المتفحم وهو دليل على صدق تلك الروايات.
وحالة القتل الوحيدة التى شهدتها تلك الأحداث هى لشخص مسيحى يدعى إسكندر طوس، 65 عامًا، يعمل حلاقًا بالقرية، وكان يدافع عن نفسه ومنزله حينما تعرّض للاعتداء بإطلاق الأعيرة النارية فى الهواء لإرهاب المعتدين.. وحسب رواية الشهود وبعض الفيديوهات فقد تم القبض عليه من قبل المعتدين وسحله فى شوارع القرية وضربه بآلات حادة وسط تهليل من جمهور المعتدين حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يستقر الأمر عند ذلك الحد، بل تم تشويه جثته، وقام المعتدون بإلقاء الجثة فى الجانب الغربى من القرية دون دفنها، وحينما شاهدها بعض العرب المارين بعد رجوع المعتدين قاموا بدفنها ناحية مقابر الأقباط، وحينما علم المعتدون بذلك الأمر ذهبوا واستخرجوا الجثة مرة أخرى وقاموا بتمزيقها، ثم تركها على حدود قرية أخرى، مما دفع آخرين لأخذها ودفنها للمرة الأخيرة دون تغسيل أو صلاة، وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا من قبل المعتدين الذين مثّلوا بتلك الجثة مرتين دون أى رحمة أو تقدير لحرمة الميت.
كما تم تهجير نحو 160 أسرة بإجمالى نحو 700 إلى 800 فرد، ومما هو وضح بأنه تم إيواء تلك الأسر من قبل بعض العائلات المسلمة التى شهدت ما حدث ولم تستطع التدخل، فما كان منهم إلا تقديم المساعدة لتلك الأسر المسيحية المهجرة وهى نحو 15 عائلة من المسلمين، وهو ما جعل المسيحيين يشعرون بوجود أمل فى البقاء فى تلك القرية.
واستمرت أعمال الهجوم والنهب خلال أيام الأربعاء والخميس والجمعة، أى من يوم 14 إلى يوم 16 من أغسطس، وعقب ذلك استمرت عمليات الترهيب والترويع للأقباط.
فى مسألة الجزية، كانت لى وقفة مع الأهالى هناك، حيث أكدوا لى أنها موجودة، لكن ليس تحت مسمى الجزية، ولم يطلبها منهم صراحة المسلمون، بل يقوم بجمعها بعض البلطجية المدعوين للتدين وبصورة تكاد تكون أقرب إلى الهزل، حيث يقولون لهم إن تلك الأموال التى نجمعها ليست إلا لحماية النصارى من أى اعتداءات قادمة مثل ما شهدته القرية.
أى بمعنى أنك يجب أن تدفع لى لكى تتقى شرّى، لكن بصورة غير مباشرة، تلك الجزية متفاوتة حيث تقتصر فى بعض الأحيان على نحو مئتى جنيه وترتفع لتصل إلى حد خمسمئة جنيه، ومن يحدّدها هم جامعوها، فحينما يدخلون منطقة معينة يسمون البيوت، وما يجب عليهم جمعه من الأموال، فمثلًا: بيت فلان عليه 500 جنيه، وبيت فلان 400، وهكذا، لكن أكد كثيرون من مسيحيى القرية أن تلك النزعة التى يجمع بها هؤلاء تلك الأموال مليئة بالكره، وأحيانًا أخرى تعبر عن نزعة إسلامية متشددة.
الغريب فى اعتداءات دلجا عدة أمور، وهو ما يعتبر حالة محل دراسة لم أشاهدها فى الأماكن التى زرتها فى محافظة المنيا.
الأمر الأول: هو هدم المذابح الأثرية والحفر أسفل منها، اعتقادًا من المعتدين أن بأسفل تلك المذابح آثارًا وذهبًا من خبايا الأقباط، وهو ما فشلوا فى الحصول عليه لعدم وجوده بالأساس.
الأمر الثانى: هو كسر باب طافوس أثرى، «والطافوس» (هو مقبرة يتم دفن فيها الرهبان والكهنة والأساقفة الذين اعتادوا العيش فى ذلك المكان أو الخدمة فيه)، وحينما لم يجدوا شيئًا ذا قيمة قاموا بإخراج العظام الموجودة وتحطيمها وسحقها، وفى رواية بعض الأقباط اللعب بها، وهو ما يعتبر جريمة بكل المقاييس تعبر عن مدى كره الطرف المعتدى وعدم احترامه ليس فقط لمقدسات الآخر بل لحرمة القبور والموتى، بل إن مثل تلك الحادثة لم نجد مثلها فى العصر الحديث.
الأمر الثالث: فى حال دفاع أى قبطى عن نفسه يصبح دمّه مهدورًا وهو ما رأيناه فى حادثة إسكندر طوس وهو ما يدفعنا للجزم بأنه ليس هناك أى وسيلة لدفاع الأقباط عن أنفسهم، فهم فى أغلب الحال مغلوبون على أمرهم وليسوا إلا طرفًا مفعولًا به.
الأمر الرابع: مسألة فرض الجزية ما هى إلا تعبير عن عدم وجود الأمن وعدم سيطرة الحكومة فى تلك الأثناء على الموقف، مما أتاح الفرصة لكل مَن تسول له نفسه بفعل ما يشاء حتى إن كان ليس له أى ميول دينية أو نظرية يؤمن بها.
الأمر الخامس: تباهى المتشددون بالقرية بما حدث تجاه الأقباط، حتى إنهم صوّروا تلك الاعتداءات بالفيديو وكانوا بنشرونها فى ما بينهم، خصوصًا ذلك الفيديو الذى يعتدون فيه على إسكندر طوس ويعزبونه ويسحلونه فى شوارع القرية.
الحالة الأمنية سابقًا وحاليًا:
كما قلنا فى السابق، إن الحالة الأمنية فى دلجا متردية منذ اندلاع ثورة يناير مرورًا بفوز الرئيس مرسى حتى خطاب الفريق السيسى وصولًا إلى الأحداث الأخيرة عقب فض اعتصام رابعة.
مما هو واضح أنه حتى عقب بداية تلك الأحداث لم تتخذ أى من قوات الشرطة أو الجيش أى رد فعل لتلك الاعتداءات كما حدث فى طول المحافظة وعرضها.
ولكن مع نشر القضية إعلاميًّا حاول الجيش والشرطة الدخول قرابة المرات الثلاث، وفى كل مرة قابلهم الفشل فى الدخول وإحكام السيطرة، نظرًا إلى كثرة السلاح داخل تلك القرية.
فى اليوم السابق لدخول قوات الجيش والشرطة قرية دلجا، كنت هناك ولم أجد أيًّا من أفراد الشرطة أو الجيش وكأن شيئًا لم يحدث البتة، وبسؤال الأهالى قالوا إنهم لم يروا أيًّا من أفراد الأمن من قبل وحتى وجود تلك الأحداث، فالقرية مهملة أمنيًّا تمامًا.
فى يوم السادس عشر من سبتمبر وفى غضون الساعة الرابعة عصرًا، نجحت قوات الجيش فى دخول القرية على غير توقع من الأهالى وقامت بالانتشار فى محيط جسر القرية ومدخل القرية الغربى وحدود القرية الشرقية مع القرى الأخرى، وذلك لمنع دخول أو خروج أيًّا من الأهالى حتى إحكام السيطرة على الأوضاع، كما تم القبض على نحو 80 فردًا، حسب رواية أهالى القرية، ممن كانوا متورطين فى الاعتداءات الأخيرة.
عقب سيطرة الجيش على مداخل ومخارج القرية قام عدد كبير من المؤيدين لحكم الرئيس محمد مرسى بتنظيم مسيرة كبيرة تنديدًا بالانقلاب حسب زعمهم، وتأييدًا للشرعية، وحاولت تلك المسيرة الدخول فى صدام مع قوات الجيش فتم الرد عليهم بإطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريقهم.
عن المضارين:
الوضع الحالى بالنسبة إلى المضارين هو سيئ بكل الأحوال، لكن عادت بعض الأسر إلى منازلها حتى ترفع أنقاض المنازل وآثار الحريق، ومن ثَم تجديد المنازل والعيش فيها مجددًا وهو العبء الأكبر على تلك الأسر الفقيرة.
ولكن هناك قطاع من الأقباط متخوفون من الرجوع خوفًا من اشتعال الأحداث مرة أخرى، وهو ما يدعو للتساؤل حول مصير تلك الأسر، كما أن هناك كثيرًا من الأسر غادرت القرية بعد غلق منازلها والعيش فى مكان آخر بعيد عن دلجا.
كلمة أخيرة:
حينما هممت باتخاذ القرار لدخول القرية ومشاهدة ما حدث وجدت تحذيرات كثيرة من قبل بعض أهالى مدينة المنيا على اعتبار أنها مجازفة خاسرة، بل وسوف تأتى بنتائج غير حميدة بالنسبة إلىّ ويعنون بذلك الاعتداء على شخصى أو رفقتى التى تصحبنى، حتى إن هناك بعض النشطاء سواء الحقوقيين أو السياسيين الذين كانوا يكتبون ليل نهار عن تلك المشكلة هم أكثر الناس خوفًا من الذهاب إلى هناك ويستمدون معلوماتهم ليس من مشاهدة حقيقية للواقع، لا بل يعتمدون على مصادر يمكن أن تكون غير صادقة فى روايتها للأحداث سواء بالتهوين أو التهويل على عكس الموقف، وهو ما يجعلنا نختلس بعض الأسئلة التى تحتاج إلى إجابة:
إلى أى مدى نعتمد نحن على قراءتنا للأحداث؟ وإلى متى نعتمد على التليفونات والإنترنت فى مدّنا بالمعلومات لكتابة خبر صحفى أو تقرير حقوقى؟
إلى متى سوف نجاهر بأصواتنا دفاعًا عن أشخاص لم نقابلهم ولم نلمس مشكلاتهم وخسائرهم؟
إلى متى سوف نخاف على أنفسنا من غول ليس له وجود إن ذهبنا إلى داره؟
لا بد أن تكون هناك إجابات واضحة على تلك الأسئلة حتى نستطيع إيجاد الحقائق المجردة، ومن ثَم حل مشكلاتنا، وإلا فسوف نكون مرّائين غير صادقين مع أنفسنا أو مع الناس.