بطريقة ما..لابد أن هذا المشهد قد حدث .. قد نحتاج لآلة الزمن لكي نعيد مشاهدته وقد لانحتاج .. فالتاريخ يمتلك آلة الزمن الخاصة به والتي يستطيع بها إعادة الكثير من الأحداث بغض النظر عن اختلاف الوقت والمكان . في فرنسا سنة 1815 .. ربما شهد أحد مقاهي الحي اللاتيني أو صالونات المثقفين جلسة بين صديقين كهلين .. أحدهما من فلول الملكية الغابرة والآخر كان من شباب الباستيل الذين تحمسوا للثورة قبل 26 سنة .. ينظر الإثنان إلى الأحداث الجسام التي جرت والعمر الذي ضاع ويتبادلان الحديث .. مناصر الملكية يتحدث بشماتة "ربما" .. فبعد 26 عاما من سقوط الباستيل ها هي دورة التاريخ تعيد الأمور إلى ما يبدو أنه نقطة البداية .. عاد الملك ليجلس على العرش في باريس ودفعت فرنسا ثمنا باهظا لثورتها .. عشرات الآلاف حصدتهم المقصلة ومئات الآلاف حصدتهم الحروب المتوالية في كل أنحاء أوربا .. سُرقت الثورة على يد الكثير من الغوغائيين والزعماء المزيفين والمداهنين والسفاحين والجنرال القصير الذي أصبح إمبراطورا وشيد مجده العسكري على جثث مئات الآلاف من البسطاء الحالمين .. وفي النهاية تبدو الثورة قد خبت وانتهت إلى هزيمة ساحقة في "ووترلو".. لو أصغيت إلى حديث الصديقين الكهلين ربما ستجد نبرة الشماتة في حديث مناصر الملكية ونبرة الإحباط في حديث مناصر الثورة.. وكلاهما أضاع عمره متشوقا أو خائفا من هذه اللحظة . 1815 ليست نهاية المطاف وليست نهاية التاريخ .. فنحن نعلم الآن أن حديث الصديقين بكل ما فيه من شماتة وإحباط ليس له أي قيمة .. التاريخ انتصر لثورة فرنسا وللقيم التي أعلنتها حتى لو لم تستطع تطبيقها بشكل كامل وفوري .. الإخاء.. العدالة .. المساواة .. والحرية.. صارت هذه المبادئ مطلبا للشعوب التي تبحث لها عن مكان في العصر الحديث .. عاد الملك لويس الثامن عشر إلى عرش أجداده ولكن .. لم يجرؤ يوما أن يردد الكلمة المأثورة التي قالها جده الأكبر الملك الشمس لويس الرابع عشر : "أنا الدولة والدولة أنا".. لم يعد أحد في بلاط الملك يستطيع أن يسخر من تذمر الفقراء الباحثين عن الخبز : "إذا لم يجدوا الخبز فليأكلوا الجاتوه" .. لم يعد الحاكم يستطيع أن يتعالى على الشعب أو يسخر من حراك سياسي فيقول : "خليهم يتسلوا"..أو أن يعتبر أن معارضيه هم مجرد حفنة من الأشخاص يدبرون مؤامرتهم في "الحارة المزنوقة". من يحسن قراءة التاريخ يستطيع دائما أن يفهم حقيقة ما يحدث في الحاضر وما قد يأتي به المستقبل .. ومشكلة قراءة التاريخ أنها تعمل عادة وفق مبدأين متناقضين ظاهريا ومستنزفين في أكلاشيهات سطحية يرددها من لا يفهمونها : "التاريخ يعيد نفسه" و "عقارب الساعة لا تعود أبدا إلى الوراء" .. من يستطيع قراءة هذين المبدأين معا دون أن يجد فيهما تناقض هو فقط من يستطيع أن يفهم منطق التاريخ في التعامل مع الثورات.. وكيف تسود مبادئها في النهاية مهما تغيرت وجوه المتسلقين والمتاجرين والحاكمين والمحكومين.. .. "عيش .. حرية .. عدالة إجتماعية"