لم يعد لدي النظام من يستجيب لرسائله الغرامية. النظام كان عاطفياً طوال العشرين سنة الأولي من حكم مبارك مع من يسميهم «محدودي الدخل».هم الجيش الجرار الذي يشكل القاعدة الاجتماعية لنظام «وراثة الجنرالات». مبارك ليس غريباً في جمهورية الجنرالات الذين اختصروا شرعية الحكم في القدرة علي اقتناص السلطة. بعدها تأتي محاولة إقناع الشعب بالمرطبات الضرورية ليكون«الفرعون» مقبولاً (مجرد القبول ). الكائنات المسماة ب«محدودي الدخل» كانوا عشاق مبارك..ينتظرونه كل عام في عيد العمال ليسمعوه النداء الذي يطرب أذنيه ويشحن مشاعره كأب راعٍ وفرعون مسيطر..كان مبارك يبتسم كلما سمعها ضعيفة في البداية..«المنحة...» ابتسامته تتسع والحماس يشتد لتصبح غناء جماعيا «المنحة ياريس». يعود الريس إلي القاعة ووجهه متهلل..وسعيد بأنه سيستجيب لأطفاله محدودي الدخل..ويمنحهم «علاوة» توضع علي الراتب مثل المرهم المسكن..لكنه القادر علي تمرير بعض الطمأنينة لدي جيش الدولة الجرار من العمال والموظفين. مبارك جنرال لم يضع البدلة العسكرية علي جسده منذ اللحظة التي رآها ملطخة بدماء رئيسه السابق السادات. لكنه يعرف ويدرك جيداً أنه يحكم بالمنطق العسكري «الأقوي يعتلي». مازال مبارك يعرف ويدرك رغم تغيير قواعد اللعبة والاعتلاء..ولهذا عندما شعر بأزمة حول مقعده الرئاسي،ظهر مع جنرالاته واحتفل بتحرير سيناء في قلب الجيش الثاني..ومن هناك أرسل تهديداته للمعارضة «لن نسمح بأن يكون مستقبل الوطن في مهب الريح». لن ينتظر مبارك الريح، سيوجهها لتصيب المعارضة بخيبات أمل أو يأس جديد..هذا ما قاله في الخطاب الذي خرج به من محنة «المرارة». أكد مبارك امتلاك نظامه القوة،رغم أنه يدرك بغريزة الحاكم الأبدي أن المراهم السنوية لم تعد صالحة لصناعة القبول عند الناس ولا تجييش «محدودي الدخل» لدعم النظام. لم يعد لديه غير القوة. ويعتلي نظام مبارك السلطة دون مراهم ولا قواعد اجتماعية..كل الشرائح تشعر بالمعاناة من العامل الذي يصرخ من يوميته (3جنيهات ونصف) إلي الموظف الذي يحتاج علاوة 500% ليشعر بأنه لن يبيع شرفه يومياً ليكمل الشهر، وحتي التاجر أو صاحب المصنع الصغير الذي وصلت ثروته إلي الستة أصفار..كلهم يشعرون بالمعاناة.. ولا يطمئنون إلي الرسائل الغرامية السنوية أو التي يرسلها النظام كلما احتاج إلي السند المعنوي. لن يسمع مبارك في عيد العمال نداء «المنحة يا ريس» لأن الانتظار لم يعد للمنحة بل لتطبيق قرار محكمة القضاء الإداري برفع الحد الأدني للأجور إلي 120جنيهاً. حكم محكمة يقف النظام ضده بينما يفخر بكونه أخرج مليارديرات ينافسون في قوائم فوربس. ليس لدي مبارك من يسانده إلا المنتفعين به وهم حفنة صغيرة جداً..جداً. إذن ..رسائل النظام الغرامية لن تصل..ولن يكون أمامه إلا التهديد بالقوة. وهذه مرحلة جديدة علي صراع السلطة والمجتمع في مصر..جديدة تماماً.