لكأني أرى صفوت الشريف، بابتسامته الوقحة، ونظرته اللزجة، إذ خرج على تلفزيون الدولة الرسمي، للمرة الأخيرة، يقول: «الشباب في التحرير أولادنا، والشعب المصري كله فوق رؤوسنا، فنحن جميعًا خدّام الشعب، وسنحقق الإصلاحات المطلوبة»، ولكأني أسمع خطاب التنحي الذي ألقاه المرحوم عمر سليمان، عابس الوجه زائع البصر، بعدئذ بسويعات. هذا شعور باغتني قويًا، إذ كنت أتابع المؤتمر الصحفي للمتحدث الرسمي، باسم الرئاسة، وعسى شعوري ليس مخطئًا إذ أؤكد أن مؤسسة الرئاسة تترنح، والرئيس يرتجف رعبًا، فالرجل «رد سجون»، وهو بالضرورة يعلم أن سقوطه يعني عودته ومعه رؤساؤه. إلى الزنازين، حيث الحشرات التي تمص الدماء، والنوم على «البُرش»، وربما الضرب على القفا، من المخبرين ذوي القبضات القاسية، والكفوف العمياء، وكذا تنظيف الحمامات.
ياللعار والإهانة.. سنة واحدة يا مرسي، ولم تنجح إلا في الفشل؟
لو كان محمد مرسي، «المخلوع الثاني إلا قليلًا»، يملك مثقال ذرة من المنطقية، وخلايا مخه تعمل على نحو طبيعي، لما وصل إلى هذه المهانة.. ولما أصبح بعد سنة سوداء، منبوذا يختفي في قصره المرصود، يخشى أن يطل من الشرفات، ويخاف أن يستقبل وزيري الدفاع والداخلية، إلا بعد منع حرسهما الشخصي من الدخول.
الخوف استوطن نفس مرسي، فبعث فيها مشاعر مريرة، ليست تخرج من أصحاب «الشخصية الإخوانية»، ألا وهي مشاعر رهبة «الزي الميري»، كونه يمثل هيبة الدولة، والإخواني بالضرورة خارج عن الدولة، وينتمي إلى تنظيم ضد القانون.
حصاد مرسي أن حكم، ففشل، فكذب، فتمادى في الكذب، فزور الدستور، فاستعدى المعارضة، فتكبر، فتفرعن، فرفض الحوار، إلا على طريقة الأكاسرة المنتصرين، مع الأسرى، فأخوّن، فكفّر، فأرهب، فسفك الدماء، فثار عليه الشعب، فصار ساقطًا بلا شرعية.
المتحدث الرسمي مساء أمس، لم يقل شيئًا ذا أهمية، أو ذا دلالة.. فسر الماء بعد الجهد بالماء، أخذ يلف ويدور ويناور ويداور على الطريقة الإخوانية، حتى لا يكون في كلامه ما يُلزم، لكنه لأول مرة لا يتشدق بالعبارة الإخوانية اللزجة: رئيس منتخب.. وإنما تحصن بذريعة مترهلة جديدة، للتنصل من تبعات الاستفتاء الذي أعلنت الميادين فيه سقوط مرسي، وتمثلت هذه الذريعة، في أن الكلام عن انتخابات رئاسية مبكرة، غير دستوري، وسرعان ما خرج عصام الحداد، مساعد رئيس الجمهورية، ليقول: ولا الضالين آمين، ومن ثم يلقي نكتة سمجة، مفادها أن الانتخابات المبكرة ستنسف الديمقراطية. أية ديموقراطية يا أخ عصام بعد الدم؟
دمك سم!
أما العصام الثاني، المشهور بالعريان، فلم يجد إلا أن يتعرى من الحكمة، وينفث طائفية متنطعة، فكتب على صفحته على موقع التواصل «فيسبوك»، كلامًا حول الحرب بين الحق والباطل، والشريعة والضلال، فيما أخذ آخرون يتحدثون عن الفلول.. أين الفلول يا بركة؟ ومن الفلول؟ طيب عيني في عينك!
البلد كلها في الشارع، وهم صم بكم عمي لا يفقهون، على قلوبهم، وعلى عيونهم غشاوة.
واضح أن النظام فقد عقله، وهذا طبيعي بالنسبة لتنظيم ظل يتمسكن، ويدعي أنه الفصيل الأقوى والأهم على الأرض، ولما وصل إلى الحكم، وجد الشعب أن منهجه غير مستساغ، ومن ثم خرج عن بكرة أبيه، ليبصق القرف المقزز.. ومنطقي بالنسبة لخريجي السجون، أن يركبهم ألف عفريت، حين يحلق شبح السجون فوق أدمغتهم، ويشدهم من لحاهم التي تخفي تحتها أعشاش دبابير.
الجماعة الإرهابية تتساقط، والأرض قامت تهتف: الخروف لن يصير ملكًا، فإذا بالخروف ينطح ويرفس، ويعتمد على الميليشيات المسلحة، معتقدًا أن القلة القليلة، من أولي الجلاليب في «حارة رابعة العدوية المزنوقة»، سيفرضون كلمتهم على وطن بأسره، متوهمًا أن سفك الدماء، في محيط مكتب الإرشاد، سيرهب الثورة، التي ينضوي تحت رايتها، راية الحق، شباب عاهدوا الوطن على أن يتوجوه بالحرية والكرامة.
سيسارع أحد أبناء السمع والطاعة، من راضعي حليب التنطع والنطاعة، وأصحاب النظرات اللزجة، والكروش المهولة، والأبدان الكمثرية، والأرداف الممتلئة، إلى الهجوم كثور يلوّح له مصارع بمنديل أحمر: اتق الله يا عدو الإسلام، هذا كلام الإعلام الفاجر الذي يقلب الحقائق، والرئيس لا ينام أنتم النائمون، لقد كان شباب الإخوان يدافعون عن المقر، وهؤلاء البلطجية هاجموهم.
طيب يا سيدي.. موافق، لكن أليس رئيسك وجماعتك المفجوعة على التهام كل مصر، وأخونة كل مصر، هي التي فتحت بوابات الجحيم، إذ استخدمت عاصم عبدالماجد ومحمد عبدالمقصود، ومن على شاكلتهما من التكفيريين، وأمعنت في التهديد والوعيد، وتوسعت في استخدام أفعال مثل: سندحر وسنهزم وسندك وسنكسر وسنحطم الفئة الضالة.
ليس دفاعًا عن حرق المقر، لكني المشهد نتيجة أكثر من كونه سببًا.. ويارب تفهم بحق جاه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن كنت واثقًا من أنك صعب أن تفهم.
أيًا ما يكون الأمر، وعودًا إلى المتحدث باسم الرئاسة، الذي لم أجد له ميزة، إلا أنه رجل شديد الأناقة.. والذي تكرم وتنازل وتعطف وأغدق علينا بتصريح بأن الرئيس يدعو المعارضة للحوار، ورد محتدًا حاسمًا، على أحد الصحفيين، حين سأله عما إذا كان اعتراف الرئيس بخطاياه سيتبعه تصحيح لها، قائلًا: أخطاء وليست خطايا.. لا والنبي يا شيخ.
الرئيس ارتكب ما هو فوق الخطايا.. الرئيس اقترف جرائم، وعلى رأسها التحصن بالإرهابيين ورعاية المجرمين.
عمومًا.. إن الجدل اللغوي احول مفردتي خطايا وأخطاء، ليس مهمًا، فهذا أمر يمكن تجاوزه، لكن الذي لا يمكن فهمه، أن المتحدث يطالب المعارضة بحوار، غير مشروط كالعادة، كما لو كان رموز المعارضة لديهم القدرة على وقف النبض الثوري.
هذه ثورة شعب أيها «الرسمي».. فقل لرئيسك أن الشعب المصري، رأيه من دماغه، يسبق المعارضة والنخبة والحاكم، ولا يدين لأحد إلا الله الحق العادل، بالسمع والطاعة، فأفيقوا من الخرافات واستعدوا للرحيل، أو للقفز من المركب الغارق، وانتهى الدرس يا مرسي.