مازالت تداعيات مبادرة الدكتور البرادعي الداعية للخلاص من النظام الرئاسي الاستبدادي وبناء جمعية وطنية تشارك فيها كل القوي الديمقراطية والفئات الاجتماعية لوضع أسس بناء نظام برلماني ديمقراطي، مازالت تداعيات هذه المبادرة تمضي باندفاع وتلقي استجابة واسعة في الأوساط الشعبية والحركات الديمقراطية، وتحدث استقطابا لم تشهده مصر منذ أزمة مارس 1954 التي صادرت الحياة السياسية، ووضعت أقدار البلاد في يد ديكتاتور مطلق الصلاحيات. أبرز سمات الاستقطاب، اصطفاف الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة ضد البرادعي ومبادرته، رغم فشل مساعيها في التوصل إلي موقف مشين أو فعل فاضح يمكن أن يدين الرجل أو علي الأقل يحد من تزايد شعبيته.. حتي في داخل قطاعات واسعة من أعضاء أحزاب المعارضة، وأيضا في دوائر الحزب الوطني وإن كانت أقل اتساعا وأكثر تحفظا،سنجد من يصطف مع البرادعي. ومن أبرز تداعيات مبادرة البرادعي كشف الموقف الأمريكي والأوروبي الذي يدعي التدخل السياسي والعسكري في المنطقة دفاعا عن الديمقراطية هذا التدخل الذي وصفه البرادعي أنه لم يسفر إلا عن توسيع قاعدة الإرهاب والقوي والأنظمة الاستبدادية في المنطقة. ويفرض الاستقطاب ذاته حتي علي الفضائيات الرسمية وشبه الرسمية، في معظم البرامج الحوارية، وأصبح ممثلو الدولة والحزب الوطني هدفا للسخرية والتهكم.. ويمكننا القول إننا إزاء لحظة فارقة منذ عودة البرادعي لمصر لإدارة المعركة من أجل الانتقال السلمي للديمقراطية. في إطار هذا الاستقطاب والاندفاع وتفجر المشاعر الجياشة، تم تشكيل الجمعية الوطنية للتغيير، واختيار لجنتها التنسيقية التي أعلن عنها مؤخرًا تمت بعجالة قد تبررها اللحظة، لكن عدم التروي وعدم مناقشة تداعيات هذا الاندفاع، قد نجد أنفسنا نجعل من شعار البرادعي (معا سنغير)، فارغا من روحه، ونحوله إلي زعيم ملهم، نهتف من خلفه بالروح والدم. هذا ليس بمستبعد وقد عشنا ستين عاما نهتف بحياة الزعيم أو بسقوطه، ولم نعرف أو نمارس كيفية محاسبة الزعماء والوزراء ولا حتي عسكري المرور، إن أخطأ، لذلك استوقفني ما كتبه الدكتور حسن نافعة - منسق الجمعية الوطنية-، عن فكرة تأسيسها وطريقة تشكيلها، التي تعكس قدرا من التلقائية، والعشوائية، حتي إن البرادعي نفسه لم يكن متحمسا لها في البداية.. وأسفر هذا التعجل عن اختيار أعضائها ممن اشترك في لقائه في 23 فبراير عقب عودته، فلم نجد فيها الوجوه الشابة التي استقبلته في مطار القاهرة، ولم ينعكس فيها التنوع الكبير الذي يتميز به جمهوره ومؤيدوه الواسع من فلاحين وعمال ونساء وشباب وشابات وصعايدة وبحاروه.. والانتماءات السياسية والثقافية والفكرية والفنية المتنوعة وهو أمر لابد من مراجعته.. والأهم أن الجمعية أعلنت منذ تشكيلها عن أن بابها مفتوح أمام كل المصريين، وحتي الآن لا يعرف الكثيرون الراغبون في المشاركة أين هذا الباب، ومواعيد فتحه وإغلاقه؟! والأكثر أهمية، أن هذه الجمعية بدلا من أن تكون (برلمانا شعبيا) لقوي التغيير تدير حوارا واسعا حول التغيير المأمول وأهدافه وكيفية تحقيقه، اقتصرت علي أن تصبح مجرد مكتب معاون للبرادعي، مهمتها الوحيدة تقريبا جمع توكيلات للدكتور البرادعي علي مطالب محددة سلفا، مهما كانت صحيحة إلا أنها لم تكن حصيلة حوار واسع وجاد بين قوي التغيير التي تناضل متفرقة علي مدار عقود وتمكن البرادعي في استقطابها بمبادرته... والخوف، أن تثمر هذه الطريقة في تشكيل الجمعية إلي تعزيز الطريقة التقليدية التي عشناها ونشاهدها منذ عقود طويلة، طريقة تستبعد المشاركة الواسعة للجماهير وتتغاضي عن الحوار المفتوح، وتستبدله بزعيم ملهم، ومجموعة ضيقة تصدر التوجيهات، وتحدد الأهداف، وتحشد الجماهير لتأييدها.. وفي النهاية لا تسفر إلا عن انطفاء بريق شعار (معا سنغير)، وانفضاض الراغبين في المساهمة والمشاركة الجادة، أو تحولهم في أفضل الأحوال إلي مجرد قطعان من المؤيدين.. في النهاية، قد تكون هذه التخوفات مبالغا فيها، لكنها ضرورية حتي لا نوئد مشروعا جادا للتحول الديمقراطي، ونفرط في لحظة تاريخية من الاستقطاب الحاد، ويتحول الأمر إلي استبدال شكل من أشكال الاستبداد بآخر.