فاجأت ردود الفعل الشعبية المؤازرة للبرادعي الأحزاب والقوي السياسية المصرية، كما فاجأت النظام وأربكتهم جميعا، بقدر ما كشفت عن ضجر عام من استمرار الأوضاع الراهنة والنظام السياسي الراكد والمترهل، والمعادلة السياسية التي فرضها انقلاب 1952. حاول البعض أن يصور البرادعي علي أنه مجرد راغب في الترشح للرئاسة من باب تغيير الوجوه، وأنه يتمتع بقدر من التأييد الدولي والإقليمي يمنحه هذه «الجرأة» علي التحدي.. وأن هذا الترشح قد يمنح الانتخابات الرئاسية لعام 2011 قدراً من السخونة والحيوية، لكن النتيجة معروفة مسبقا. لكن البرادعي أوضح بشكل قاطع أنه لن يدخل الانتخابات ولن يدخل «اللعبة السياسية» علي قواعدها الراهنة: سلطة تنفيذية مستبدة، تتلاعب بالدستور، وبالانتخابات ونتائجها، وتنكل بكل القوي السياسية التقليدية من ليبراليين وشيوعيين وإخوان وجماعات إسلامية وحتي أبنائها من الناصريين، وترهب الشعب وتهمش حضوره السياسي المستقل علي مدار ما يقرب من الستين عاماً. الآمال التي صاحبت إعلان البرادعي ترشيحه من أجل انتقال مصر من نظام رئاسي استبدادي إلي جمهورية برلمانية ديمقراطية تتمتع فيها السلطات التشريعية والقضائية بالاستقلال والحق في سن القوانين واختيار ومراقبة السلطة التنفيذية، والقدرة علي محاسبتها وإقالتها، ولا يقف فيها رئيس الجمهورية فوق كل السلطات، بل يكون محدد السلطات وخاضعا بدوره للسلطات التشريعية والقضائية، ويأتي ويمضي بالانتخابات العامة النزيهة الخاضعة للإشراف الكامل للقضاء. كل هذه الآمال والطموحات لن تتحقق إلا بتغيير الدستور وبانتخابات نزيهة، وهي أمور تتنافي تماما مع إرادة السلطة الراهنة، ويصبح الاستمرار في مطالبة الرئيس بتغيير الدستور علي النحو المطلوب نوعا من العبث، وقد لا يسفر إلا عن بنود أشد سوءاً وقسوة، كما حدث في التعديل الأخير. إذا كانت المجتمعات والدول تغير دستورها عبر هيئات دستورية منتخبة «كالجمعية التأسيسة أو البرلمان»، ولما كان هذا النظام ميئوسا من أن يقدم أيا من هذه الخطوات التي مضي علي نقيضها تماما منذ انقلاب عام 1952 - فإن مشروع البرادعي للانتقال السلمي للديمقراطية، لن يتحقق، وسيلقي نفس مصير كل دعوات التغيير والتحول الديمقراطي التي تصدت لها الجمهوريات الثلاث التي أعقبت 1952. الظاهرة الغريبة أيضا، والتي تثير المزيد من المخاوف، هي رد الفعل المتحفظ من جانب الأحزاب السياسية القائمة «القانونية منها وغير القانونية» التي لم تتفاعل بإيجابية مع دعوة البرادعي والمبادرات الشعبية المرحبة بها. كما رأينا رفض البرادعي نفسه فكرة المخلص الفرد، الذي سيحول مصر إلي بلد مزدهر ينعم بنظام ديمقراطي.. فتلك -علي حد قوله- مسئولية كل القوي والجماعات والأفراد. هكذا، أحدث البرادعي استقطابا يزداد وضوحا بسرعة بين القوي الراغبة في الانتقال السلمي للديمقراطية والقوي المستسلمة للأوضاع الراهنة والمتعايشة معها، ومنها قطاع كبير ينتمي للمعارضة. علي أي حال، إذا كانت الدعوة لدستور يؤسس لنظام ديمقراطي وانتخابات نزيهة، لا يمكن أن تستجيب لها السلطة الراهنة أو حزبها أو حكومتها وقد لا تستجيب لها أيضا بعض الجماعات المعارضة لها. فهل تستطيع القوي الديمقراطية أن تقدم مشروعا واضحا للانتقال السلمي للديمقراطية يجنب مصر المزيد من التدهور أو الاندفاع نحو المزيد من التوترات السياسية والاجتماعية؟ إذا كان انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد في الأوضاع الراهنة أمراً شبه مستحيل.. هل من الممكن أن تتوافق القوي والجماعات الديمقراطية والشخصيات والمنتديات العامة علي تشكيل هيئة متسعة لممثلي ورموز كل هذه التركيبات، تتولي إعداد مشروع - مجرد مشروع - لدستور جديد يؤسس لجمهورية برلمانية، وتطرحه لجدل واسع، ويكون أساسا لقائمة مشتركة وموحدة لخوض الانتخابات التشريعية ومرشح واحد يمثلها في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟. هل هذا ممكن؟ أم أن هناك سبيلا آخر يمكن أن تسلكه القوي الديمقراطية لاغتنام الفرصة للتحول السلمي للديمقراطية؟. في كل الأحوال، مازالت دعوة البرادعي، التي تلقي استجابة شعبية تزداد اتساعا.. تطرح تحديا أمام القوي والجماعات وكل دعاة الديمقراطية في مصر، وتدعوهم للخروج من حالة الترقب، للتحرك بجدية من أجل تحول ديمقراطي تنعقد عليه آمال غالبية المصريين.