فجرت الحفاوة الشعبية التي استقبل بها د. البرادعي يوم عودته للقاهرة، والتصريحات التي أطلقها قبيل وبعد العودة.. فجرت الكثير من الآمال حول إمكانية التحرك من أجل إصلاح سياسي حقيقي ينقل مصر من نظام رئاسي استبدادي إلي نظام برلماني ديمقراطي. كشفت ردود الفعل الشعبية المؤازرة للبرادعي مدي اتساع الضجر العام، ورفض استمرار الأوضاع الراهنة والنظام السياسي المترهل، والرغبة في الخلاص من النظام الرئاسي الذي فرض علي البلاد منذ حوالي ستين عاما. حاول الكثيرون التقليل من شأن ردود الفعل الشعبية المؤازرة للبرادعي، وأكدوا أن الدستور لن يسمح للبرادعي بإمكانية الترشح، ولن يجد 250 من أعضاء مجلسي الشعب والشوري والمجالس المحلية وهي المجالس المملوكة للحزب الوطني الحاكم يؤيدون ترشيحه. وجاء رد البرادعي واضحا وقاطعا، أنه لن يدخل الانتخابات (واللعبة السياسية) علي قواعدها الراهنة : سلطة تنفيذية مستبدة ودستور يمنح الرئيس كل السلطات، ويهمش السلطات التشريعية والقضائية، وقيود دستورية وقانونية تكبل الشعب والأحزاب والنقابات، وانتخابات واستفتاءات لا تسمح بالوجود في المجالس التشريعية والنقابات إلا لمن ترضي عليه السلطات الحاكمة وترضاه. أوضح البرادعي باختصار أن الديمقراطية لن تتحقق إطلاقا في ظل هذا الدستور، وأن الإصلاح السياسي يعني التغيير الشامل للدستور، ووضع دستور جديد تتوافق عليه الأمة، يؤسس لجمهورية برلمانية، تلعب فيها السلطات التشريعية الدور القائد وتتحدد فيه سلطات رئيس الجمهورية، ويأتي ويمضي بالانتخابات العامة غير المزورة، ويمكث في الحكم فترة محددة. أي أننا إزاء دعوة واضحة لدستور جديد... وهي دعوة تتنافي تماما مع إرادة النظام الراهن والسلطة القائمة.. ولذلك نجدها تتجاهل تماما عودة البرادعي ودعواته وما صاحبها من انتعاش الآمال والرغبة الجادة في تغيير ديمقراطي.. واكتفي بعض المسئولين أو أشباه المسئولين أو أتباعهم بإطلاق تصريحات مقتضبة تؤكد أن الدستور تم إصلاحه مؤخرا، ولا يمكن إصلاحه مرة أخري بهذه السرعة. الغريب، موقف الأحزاب القانونية وغير القانونية التي تجاهلت تداعيات عودة البرادعي، واكتفت بتشكيل لجنة لمطالبة السلطة بمجرد تعديل دستوري، وتغيير المواد التي أضيفت مؤخرا خاصة المادة 76، وفتح المجال قليلا أمام الراغبين في الترشح للرئاسة، والغريب أنها توافقت علي عدم دعوة البرادعي لاجتماعات هذه اللجنة!! الغريب أيضا، أن بعض القوي الديمقراطية، التي كان من المنتظر منها أن تتلقف دعوة البرادعي لتغيير دستوري ينقل البلاد من النظام الرئاسي الاستبدادي الي نظام برلمان ديمقراطي، وأن تبادر البحث لسبل تحقيق ذلك....الغريب أنها اكتفت أيضا بالدعوة لإصلاح دستوري، غاية ما تطمح إليه إلغاء بعض التعديلات الأخيرة وبعض القيود المفروضة، ولكن يبقي جوهر الدستور كما هو. وقد يحق للمرء أن يري في ذلك محاولة لاحتواء الزخم الديمقراطي الذي صاحب عودة البرادعي، وتقليص الآمال من التغيير الشامل إلي مجرد الإصلاح.... والإصلاح في إطار النظام القائم لا يعني أكثر من زيادة في أعداد المرشحين للرئاسة، أو إمكانية زيادة أعداد ممثلي المعارضة في المجالس التشريعية والمحلية.. هذا إن حدث. التحدي الحقيقي أمام القوي الديمقراطية. ليس بالسعي لاحتواء مبادرة البرادعي والهبوط بغاياتها لمجرد إصلاح بعض البنود في الدستور... ولكن كيفية التعامل مع القوي والآمال والطموحات التي أطلقتها مبادرة البرادعي... مبادرة البرادعي، هي دعوة للقوي الديمقراطية لوضع مشروع واضح للانتقال السلمي للديمقراطية يجنب مصر المزيد من التدهور والاندفاع نحو المزيد من التوترات السياسية والاجتماعية. مبادرة البرادعي، هي دعوة للقوي الديمقراطية لوضع مشروع واضح للانتقال السلمي للديمقراطية يجنب مصر المزيد من التدهور والاندفاع نحو المزيد من التوترات السياسية والاجتماعية. فهل يمكن أن تسفر المبادرة عن بروز قوي ديمقراطية جديدة، بدأت بوادرها بالفعل، تتولي مسئولية التوافق علي مشروع دستور جديد يكون بمثابة برنامج لها، وأن تتوافق أيضا علي قائمة موحدة للانتخابات التشريعية القادمة، وأيضا علي مرشح واحد لها في مواجهة قائمة الحزب الحاكم في المجلسين.. وفي مواجهة مرشح الحزب الحاكم في انتخابات الرئاسة.. شرط أن تتم الانتخابات تحت الإشراف القضائي الكامل، وتحت أعين المنظمات الديمقراطية المحلية والدولية. قد يكون ذلك ممكنا إذا ما توافقت القوي والجماعات والأحزاب والشخصيات التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية، ودون ذلك ستتبدد مبادرة البرادعي للانتقال السلمي نحو جمهورية برلمانية ديمقراطية، وسيلقي نفس المصير الذي لقيته كل دعوات التغيير ومعارك التحرر الديمقراطي التي تصدت لها وتغلبت عليها الجمهوريات الثلاث التي حكمت مصر في العقود الستة الماضية.