فى مصر «حالة» شوق للتغيير تبدو واضحة تماما ويمكن ليس فقط رؤيتها بالعين المجردة، ولكن أيضاً رصدها والتقاطها بواسطة الحواس الخمس، لأنها مجسدة ومكتملة ويستطيع أى إنسان أن يراها ويحسها ويلمسها ويسمعها بل وأن يشمها أو حتى يتذوقها. وهى ليست مقصورة على جانب معين وإنما هى حالة عامة قابلة للرصد فى كل المجالات وفى كل الأمكنة: فى القرية وفى المدينة، فى الحقل وفى المصنع، فى المدرسة وفى الجامعة، فى الشارع وفى البيت. ولأن الكل أصبح يتنفس الآن رائحة العفن والفساد والعجز والإهمال وعدم الكفاءة، بل يصاب بالحزن والاكتئاب مما آل إليه حال البلاد، فقد باتت الأغلبية الساحقة من المواطنين فى الداخل والخارج على قناعة تامة بأمور ثلاثة: 1 - أن مصر تستحق أفضل بكثير مما هى فيه، ولديها من الموارد والإمكانات الطبيعية والبشرية ما يؤهلها لتبوؤ مكانة أرقى بكثير مما هى عليه الآن. 2 - أن النظام الحاكم هو المسؤول الأول والأخير عن حالة التدهور التى وصلت إليها البلاد، وأن استمرار بقائه فى السلطة لن يؤدى فقط إلى بقاء الأوضاع السيئة على ما هى عليه وإنما إلى أن ننتقل دوما من السيئ إلى الأسوأ. 3 - أن هذا النظام فسد من رأسه ولم يعد قابلا للإصلاح وبالتالى ليس هناك من حل سوى تغييره واستبداله بنظام آخر يقوم على دعائم وأسس وقواعد عمل ديمقراطية. كلنا يدرك أن «أشواق التغيير» ليست «حالة» مستحدثة أو طارئة وإنما عاشت معنا وفينا لسنوات، والسؤال: ما الذى تغير الآن؟، أما الجواب فهو ببساطة: عودة الأمل. كانت «أشواق التغيير»، حتى وقت قريب، مجرد «حالة رومانسية» تبدو أقرب ما تكون إلى أحلام يقظة منها إلى مشروع قابل للتجسد واقعا على الأرض. وعندما كان البعض منا يجرؤ على طرح موضوع التغيير، كان كثيرون طوال سنوات خلت ينظرون إليه فى تشكك ويمطون شفاههم متسائلين عن قوى التغيير وفرسانه ورموزه. وما إن يبدأوا فى استعراض الأسماء حتى يكتشفوا أن الفرق بين الحزب الحاكم وقوى المعارضة التقليدية ليس كبيراً، وأن لسان حالهم يقول إن التسليم بأمر واقع نعرفه أفضل من الرهان على مجهول لا نعرفه!. وفى تقديرى أن تغيراً جوهرياً طرأ على الشروط الموضوعية والذاتية المتعلقة بعملية «صناعة التغيير» فى مصر. فعلى مستوى الشروط الموضوعية لم يعد بوسع أحد أن يجادل فى حقيقة أن شعبية الحزب الحاكم تتآكل يوما بعد يوم لأسباب كثيرة، أهمها أن الحزب لا يملك رؤية واضحة لإخراج مصر من أزمتها الراهنة، وليست لديه خطة «بديلة» للدفع بكوادر بديلة «نظيفة» قادرة على تغيير صورته الرديئة، بل ربما يكون العكس هو الصحيح (حالة الدكتور كمال أبوالمجد نموذجاً). الأهم من ذلك أن مستقبل البلاد يبدو، فى حال استمرار الحزب الوطنى فى الحكم، كئيبا. فالقيادة المرشحة لتبوؤ موقع الرئاسة تنحصر فى المفاضلة بين مبارك الأب ومبارك الابن، وكلاهما سيئ لأن مبارك الابن سيكون هو الحاكم الفعلى فى جميع الأحوال، سواء خلف الستار أو أمامه. الفرق الوحيد بين الحالتين أن تبوؤ جمال مبارك رسميا مقعد الرئاسة فى حياة والده سوف يكرس الحالة الراهنة، وربما يمد فى عمر الاستبداد أربعين عاما أخرى، أما إذا استمر حكم الأب لفترة رئاسية جديدة فسوف يصبح القضاء والقدر هو العامل الحاسم فى تحديد شكل التطورات المقبلة!. وتلك عوامل تعمق من «حالة» الأزمة. ولأن «صناعة التغيير» تحتاج إلى توافر بعد آخر قادر على نقل أشواق التغيير من نطاق الأمانى والأحلام المجردة إلى حقائق ملموسة على الأرض، بتحويل «الحالة» إلى «حركة»، فمن الطبيعى أن يلعب العامل الذاتى دورا حاسما فى صنعها. والسؤال: هل نضح العامل الذاتى الآن وبات أكثر قابلية لإطلاق حركة التغيير مما كان عليه من قبل؟ أظن أن الإجابة يمكن أن تكون بنعم لسببين، الأول: انتقال مركز ثقل الحركة المطالبة بالتغيير من صفوف الأحزاب والمنظمات التقليدية، بعد أن أصبحت جزءاً من النظام وديكوراً فى صالونه، إلى صفوف الحركات الاحتجاجية الجديدة، كما انتقلت من أجيال متقدمة نسبيا فى السن إلى أجيال أكثر شبابا وحيوية ومعاناة، وبدأت تستقطب أغلبية صامتة أصبحت أكثر استعدادا للنزول إلى ساحة العمل المباشر. أما السبب الثانى: فهو «ظاهرة البرادعى». ليس بوسع أحد أن ينكر أن نزول البرادعى إلى ساحة العمل المباشر يشكل نقلة نوعية فى طبيعة وقدرات الحركة السياسية المصرية المطالبة بالتغيير، وذلك بسبب ما يتمتع به البرادعى من صفات تؤهله تماما لقيادة هذه الحركة، بصرف النظر عن موضوع الترشح للرئاسة. فالرجل مؤهل علميا ومهنيا، ويحظى باحترام العالم الخارجى، ويتبنى خطابا سياسيا يستطيع أن يحشد وراءه القوى المحلية الطامحة للتغيير دون أن يثير مخاوف العالم الخارجى. ولأنه يبدو على المستوى الشخصى شديد التواضع، بلا تكلف أو طموح زائد أو ذات متضخمة منفرة، فمن الطبيعى أن أحتار فى بعض الكتابات التى تناولت «ظاهرة» البرادعى فى الأيام الأخيرة، وبعضها صادر عن قامات فكرية كبيرة، والتى تصر على التحدث عن البرادعى بوصفه مرشحا للرئاسة، وليس ملهما لحركة التغيير، وبالتالى يحصرون النقاش فى مدى صلاحيته لشغل هذا المنصب أو قدرته على الوصول إليه. مثل هذا الطرح يشكل، فى تقديرى، خروجا عن الموضوع ويشتت انتباه الحركة المصرية المطالبة بالتغيير، بشدها إلى قضايا فرعية أو جانبية، ويساعد على دفع الأمور نحو قضايا خلافية. ولأن الأسئلة الصحيحة يجب أن تدور اليوم حول ما إذا كان الدكتور البرادعى يصلح لقيادة وتوحيد فصائل الحركة المصرية المطالبة بالتغيير، وليس لرئاسة لا يستطيع أن يكون مرشحا لها، فمن الأفضل أن يدور النقاش حول كيفية صناعة التغيير وعما إذا كانت هناك شخصية أخرى غير البرادعى يمكن أن تكون مهيأة بشكل أفضل لقيادته. ولأننى على ثقة تامة من أن الدكتور البرادعى ليس منشغلا الآن على الإطلاق بموضوع الترشح للرئاسة لأن بوسعه، إن أراد، أن يصبح مرشحا رئاسيا من جانب عدة أحزاب تتنافس على ترشيحه للرئاسة بعد ضمه إلى صفوفها، فمن الضرورى إعادة وضع قطار النقاش إلى قضبانه التى خرج عنها إذا أراد أن يصل إلى هدفه المنشود. ولا جدال فى أن بوسع الشعب المصرى أن يعثر على المئات، وربما الآلاف، ممن يصلحون لشغل الموقع الرئاسى، لكن الشخصيات التى يمكنها قيادة «الحالة» المصرية الراهنة وتحويلها إلى «حركة» سياسية قادرة على صنع التغيير لا تتوافر بنفس القدر. ولأن الشعب المصرى شعر بالحاجة الماسة إلى شخصية مؤهلة وشجاعة من خارج النظام تطرح خطابا للتغيير الجذرى وليس للإصلاح، فقد كان من الطبيعى أن تلتف جماهير غفيرة حول البرادعى على النحو المثير الذى تجلى بوضوح فى الحفاوة الكبيرة التى استقبل بها فى مطار القاهرة لدى عودته من فيينا. ولا جدال فى أن اختيار البرادعى للحظة المناسبة يدل على ذكاء واضح، غير أن التفاف الشعب المصرى حوله يعكس أيضا نوعا من الذكاء الفطرى والجمعى للشعب المصرى، ويعد دليلاً على قدرة هذا الشعب ابتداع حلول عبقرية لمعضلات تبدو مستعصية. ليس لدىّ أى وهم حول طبيعة ونوعية الأسلحة التى من المنتظر أن تُشْهر فى وجه الرجل فى المرحلة المقبلة وألا تقتصر على الحزب الوطنى وكهنته. ولا يمكن تفسير بعض التعليقات الصادرة عن بعض الأوساط إلا بأن بعض الأحزاب والجماعات التقليدية بدأت تستشعر تهديدا من نوع ما وتخشى على دكاكينها السياسية الصغيرة من حالة وطنية جديدة تبحث عن تغيير فعلى وليس لفظياً. القاطرة التى ستجر وراءها بقية عربات التغيير، فمن الطبيعى أن تشعر الأحزاب والحركات التقليدية بالقلق من المأزق الذى باتت تواجهه، والذى يفرض عليها الاختيار بين بديلين أحلاهما مر: الانخراط فى الحركة الوطنية العامة من أجل التغيير ولكن من خلال دور قد تراه هامشيا ولا يتناسب مع قامتها الظاهرة، أو إبرام صفقات مخجلة مع نظام حاكم يحتاج لغطاء سياسى لتمرير مشروع التوريث، وللاحتفاظ باستمرار هيمنته على مقاليد السلطة والثروة، بصرف النظر عن اسم شاغل الموقع الرئاسى. أظن أن الأكرم لهذه القوى أن تقبل بدور «محدود» يسهم فى تحقيق التغيير المنشود، على أن تقبل بدور «عميل» يسهم فى إجهاضه!