دعونا من شخصنة قضية ترشح الدكتور محمد البرادعي لرئاسة الجمهورية ، ولنركز أفكارنا واهتماماتنا ونقاشاتنا على "الموضوع" وتحديدا قضية الشروط التي طالب بها البرادعي لكي يتسنى له ، أو لغيره بالضرورة ، الترشح لرئاسة الجمهورية ، فبدون هذه الشروط ستظل مسألة انتخابات رئاسة الجمهورية مجرد تمثيلية سخيفة متكررة ، لا تحمل أية مفاجآت أو فرصة للتغيير ، ولا صلة لها بالديمقراطية أو قرار الأمة أو الشعب بأي مقياس ، هذا هو جوهر الموضوع ، أما أن يكون شخص المترشح هو البرادعي أو غيره فتلك قضية فرعية وليست جوهرية ، وأنا واثق من أن مصر تملك إذا أشرقت شمس الديمقراطية عشرات الرموز الفذة والمخلصة التي تستطيع أن تدير دفة البلاد بحكمة وعدالة وشفافية ، والذين يبدون قلقا من بعض التوجهات الليبرالية للدكتور البرادعي في مسألة الشريعة مثلا أو غيرها لا أوافقهم الرأي على ذلك ، لأنهم يقيسون الأمر على ما هو كائن الآن من أوضاع ومعادلات سياسية ، الشروط التي تحدث عنها الرجل للانتخابات تعني إعادة العصمة ليد الأمة وليس ليد شخص الحاكم أيا كان اسمه ، وعندما تعود العصمة للأمة والقرار لها ، فستكون الأمة في مأمن من أي تلاعب ، فالقرار قرارها هي في الحقيقة ، وأي تغيير حاسم في الدستور أو غيره لن يكون إلا عن طريقها وبإرادتها وليس بإرادة الرئيس الجديد ، وهذا بالضبط ما يقلق الدوائر الرسمية حاليا من دعوى البرادعي ، والحقيقة أن التركة السياسية في مصر اليوم ثقيلة وصعبة للغاية على أي قيادة جديدة لمصر ، هناك مستويات للفساد غير مسبوقة ، ومتغلغلة في كافة إدارات الدولة ووزاراتها ومؤسساتها ، حتى تلك التي كانت معصومة من هذا الانهيار قبل سنوات قليلة مضت ، والفساد ليس مجرد حالات فردية انتهازية ، وإنما تحول إلى شبكات ودوائر متكاملة ومتعاضدة ، ظلمات بعضها فوق بعض ، كذلك هناك حالة انفلات غير مسبوق أيضا في المجتمع والشارع ومستويات من العنف وفقدان القانون والنظام العام مخيفة ، وهناك دولة باعت معظم أصولها وما تبقى لها نخره السوس وأصبح أطلالا تنتظر لحظة البيع بتراب الفلوس أيضا ، هناك تدمير شبه كامل للبنية المؤسسية للحياة السياسية ، فلا أحزاب حقيقية ولا قانون حقيقي لها ولا نشاط نقابي مستقل ، إلا ما ندر ، وأمور أخرى عديدة تمثل عبئا كبيرا على أي قيادة سياسية مقبلة ، فهل يملك محمد البرادعي القوة والقدرة على احتواء هذه المشكلات كلها وتفكيكها وبناء دولة مؤسسات حديثة ، لا أستطيع الإجابة على السؤال بطبيعة الحال ، غير أن الأمور ليست مستحيلة بكل تأكيد ، لكن السؤال العملي يبقى هو : إلى أي مدى يمكن أن يستجيب النظام السياسي الحالي إلى مطالب الشعب ، وليس البرادعي وحده ، بتوفير ضمانات حقيقية لانتخابات رئاسة الجمهورية أو انتخابات البرلمان ، كل المؤشرات الحالية تقول بأنه لا يوجد أي استعداد للاستجابة لتلك المطالب ، ولكن بالمقابل نحن أمام مجتمع ينمو بشكل متسارع ، وأجيال جديدة أكثر قدرة على المعرفة وعلى التمييز وعلى الاختيار وعلى الغضب أيضا ، كما أننا أمام دولة كبيرة يصعب أن يتجاهل نظامها السياسي تطورات الأحداث من حوله بلا نهاية وتتابع الضغوط على قوى الشعب الحية أيضا ، على كل حال تأتي ردود الفعل المتشنجة والعصبية للدوائر الرسمية على تصريحات البرادعي لتؤكد على أن هناك ارتباكا حقيقيا في أعلى هرم السلطة في مصر ، وضعف الثقة في المستقبل ، وغياب الرؤية ، وهذا بالتأكيد ما يعطينا الأمل في القدرة على التغيير . [email protected]