عندما أرسل الله تبارك وتعالي أنبياءه ورسله إلي بني الإنسان؛ كان ضمن أهداف رسالات السماء إحقاق الحق بين الناس، ونشر العدل في ربوع الأرض، حتي لقد ورد في الحديث القدسي: (يا عبادي.. إني قد حرمت الظلم علي نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظّالموا)، أي لا يظلم بعضكم بعضا، وحين اجتهد بنو الإنسان في كل مكان عبر العصور واستنوا قوانين وشرائع لأنفسهم؛ كان الهدف من ورائها أيضا إحقاق الحق بين الناس كي لا يظلم بعضهم بعضا، ولا يستولي بعضهم علي حقوق بعض، ولينال كل فرد في المجتمع جزاءه وفاقا علي ما عمل واكتسب، خيرا كان أم شرا، ولأن لوجود القانون هذا الهدف السامي؛ كان لابد ألا تكون نصوصه منحازة إلي أي طرف، وأن يكون واضعوه ومشرعوه فوق كل شبهة انحياز أو مجاملة، وإلا انتفت المصلحة العامة، ويصبح الناس أعداء بالقانون، وهو وضع في منتهي الخطورة، وله من التأثير السيئ المدمر في بناء المجتمع كله ما له. وفي واحد من أهم مناحي حياتنا؛ ألا وهو إيجار المساكن القديمة، أصبح الناس أعداء بالقانون، ففي الوقت الذي أصبح فيه غلاء الأسعار هو القاعدة، بقيت الإيجارات القديمة كما هي، أصبح كيلو اللحم بستين جنيها، وكيلو السكر بخمسة، وحصة الدرس الخصوصي تبدأ من عشرين وتصل إلي مائة جنيه، ولتر البنزين قارب الجنيهين، واسطوانة البوتوجاز بعشرين، وسندوتش الفول أو الطعمية بجنيه، ويؤجَر البيت بالقانون الجديد بمئات أو ألوف الجنيهات، وما زال الإيجار القديم خمسة أو عشرة جنيهات، يلقيها المستأجر للمالك أول أيام الشهر ولا يبالي، فالقانون يحميه، وإذا حدث وتوفي المستأجر الأصلي؛ ينتقل عقد الإيجار بالقانون بنفس القيمة الضئيلة إلي ورثته، وليشرب المالك المسكين من البحر، وإن تضرر؛ فليلجأ إلي القضاء الذي سيرسخ بحكمه العداوة بين المالك والمستأجر، المالك يتمني وفاة المستأجر وورثته، بل يتمني أن ينهار المنزل المؤجَر علي من فيه ويؤجر أرضه بالآلاف أو يبيعها بالملايين، والمستأجر يحتمي بالقانون الظالم، ويأتي حكم القضاء بتمكين المستأجر من العين محل الخلاف رغم أنف المالك، ويعيش الناس متربصين ببعضهم البعض أعداء بالقانون! هذا في الدنيا.. أما في الآخرة؛ فالموقف مختلف، فالله تبارك وتعالي نبأنا بما سيحدث يوم القيامة في قوله تعالي: (حَتَّي إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَي مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَي ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) - الأنعام 31، هنا يتحدث القرآن عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، حين يأتي كل من ارتكب معصية أو قارف إثم، أو سرق أو اختلس أو أكل حق غيره، أو كذب أو زني أو استولي علي أرض أو مسكن، أو بخس بائعا حقه، يأتي هؤلاء يحملون أوزارهم علي ظهورهم، ويا له من مشهد تقشعر من هوله الأبدان رعبا، فمن استولي علي حق غيره؛ أرضاً أو متجراً أو شقة؛ سيأتي يوم القيامة يحمل ما استولي عليه علي ظهره، ومن تصرف بالباطل من موقع المسئولية علي أرض الدولة وباعها لأقاربه وأبنائه ومحاسيبه، وسوي أموره بالرِشُا واستثمر الفساد المستشري، سيأتي يوم القيامة يحمل مئات آلاف الأفدنة من الأرض علي ظهره، ومن تربح من وظيفته وخان أمانته، واستورد مبيدات مسرطنة أو لحوماً فاسدة، وقتل الناس وأصاب حياتهم بالوباء والأمراض؛ سيأتي يوم القيامة يحمل ما استورده أو أباح استيراده ومن قتلتهم مبيداته ولحومه علي ظهره، ومن غرق الناس في عبّاراته المخصصة لنقل الحيوانات، وأفلت من العقاب في الدنيا؛ سيأتي يوم القيامة يحمل عبّاراته بكل من غرق فيها علي ظهره، وأولو الأمر الذين يتم كل ذلك تحت سمعهم وأنظارهم وفي فترات حكمهم؛ سيأتون يوم القيامة يحملون؛ مع الأبراج العاجية التي يسكنونها؛ كل الأوزار التي ارتكبت في عهودهم بسبب إقرارهم القوانين التي جعلت الناس أعداء في بلادهم وتحت حكمهم. وقد يظن البعض أنه قد أفلت بفعاله ومكاسبه، أو أن القانون يحميه، أو أن كل الناس تفعل كذا وكذا؛ واشمعني أنا يعني، وهي جت عليَّ؟ ماكله بياكل وبيهبش! كل الأعذار لن تفيد صاحبها يوم القيامة شيئًا، فالقانون الإلهي أن كل من ارتكب وزراً سيأتي يوم القيامة يحمله علي ظهره، ولا يظلم ربك أحدًا.