يعجبني وصف حكم قضائي بأنه تاريخي. ربما لأن وصف «تاريخي» تم ابتذاله بطريقة غريبة وكلما صدر حكم لصالح أحد اعتبره تاريخيًا لأنه ينصره... وهذا ربما ما أفقد الوصف معناه. لكن الحكم الذي أتحدث عنه وصدر نصه أمس الأول فقط.. تاريخي بالمعني الكامل للكلمة. الحكم خاص بالموافقة علي تصوير فيلم «الرئيس والمشير» (سيناريو ممدوح الليثي وإخراج خالد يوسف). الخبر أصبح معروفًا الآن.. لكن قراءة نص الحكم بالتفصيل تكشف عن انقلاب في العلاقة بين الفن والرقابة من ناحية وبين الفن ومؤسسات السيادة من ناحية أخري. الرقابة في السنوات الأخيرة استسهلت عرض الأفلام علي مؤسسات تشعر بأنها أقوي منها (من الأزهر والكنيسة إلي المخابرات) والمؤسسات وجدت نفسها تمارس سلطة مقدسة علي الخيال.. وتمنع ما يخالف الكتالوج الذي رسمته. هذه معادلة توازن.. تحاصر الخيال وتطارد الإبداع الذي هو سر من أسرار النهضة والتقدة والحياة الحلوة. ومن هنا أهمية الحكم وتاريخيته. الحكم منع جهاز المخابرات وهو أقوي جهاز سيادي في الدولة من التدخل في الفن. وفي نص الحكم تأكيد مباشر يقول بأن قانون الرقابة وقانون المخابرات «لم يسند (إلي أي منهما) أي اختصاص في شأن الترخيص بالمصنفات الفنية.. وخلت القوانين من أي نص يلزم اشتراط موافقة المخابرات العامة والمخابرات الحربية للترخيص بالمصنفات الفنية.. ومن ثم فإن اشتراط موافقة الجهتين المشار إليهما وإرجاء منح الترخيص بالتصوير إلي حين موافقتهما لاسند له من القانون». والحكم يسير أبعد من ذلك ويري أن «تدخل المخابرات بطلب عدم إظهار أشخاص أو أحداث ضمن سيناريو الفيلم بعد أن وافقت عليه الرقابة علي المصنفات الفنية في شكله النهائي، يعد تدخلا في مضمون المصنف الفني وطريقة إبداعه وقهرًا لإرادة المبدع وهو أمر لا تملكه أي جهة إدارية مهما كان موقعها».. وحدد الحكم أن كل ما يمكن أن تفعله هذه الجهة (أو المؤسسة) أن «تلجأ إلي القضاء إن هي رأت في المصنف مايسيء إلي سمعتها أو ينال من كفايتها بحسبان القاضي الأدري وحده والمنوط به إقامة الموازنة بين متطلبات الحرية ومقتضيات النظام العام». هذا الحكم يمنح سندًا قويًا للوقوف أمام محاولات فرض الوصاية علي الفن والإبداع، أي فرض الوصاية علي الخيال. السلطة استطاعت أن تخيف المجتمع في السنوات الأخيرة من الفن والإبداع وأقنعته بأن في حرية الإبداع «سمًا قاتلاً» وكارثة علي الأخلاق. لم تفعل ذلك لأنها سلطة مؤدبة.. لكن التحكم في العقل يبدأ من وضع مقاييس.. للموديل الذي توافق عليه السلطة. والكوابح التي تضعها السلطة أمام الفن والإبداع لا يخدمها في نشر الأخلاق أو الفضيلة ولن يخدمها في اخضاع المجتمع إلي هيمنتها. الحكم الذي أصدره المستشار عادل فرغلي - نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة القضاد الإدراي - وسعي خلفه المحامي ناصر أمين بكل ما يملكه من خبرة قانونية وإيمان بالحرية والفن وبأن في مصر ما يستحق الدفاع عنها.. هذا الحكم سيدخل التاريخ.. ولكن ليس وحده.. معه كل من يحوله إلي حقيقة وواقع... ويبعد يد مؤسسات الوصاية عن الخيال.