ستثبت الأيام المقبلة أن طريق العمل الفردي من أجل التغيير مسدود ومن المكابرة عدم التعامل الواقعي مع الشرعية المنقوصة في مصر الجديد عاشور وأباظة والسعيد فى اجتماع أحزاب الائتلاف استرعي نظري دوما ذكاء المصريين.. ذلك الذكاء الفطري اللمّاح.. الذي يعبر عنه أولاد البلد.. بأن المصري يفهمها وهي طايرة .. ويتصل بذلك ما يقال عن «فهلوة» المصري الأصيل وكيف أنه استطاع بذكائه المجبول هذا أن يتخذه - مع الصبر - سلاحه للمقاومة في مواجهة من يتذاكون عليه، وللإفلات من حصار قوي عاتية طامعة كم تربصت بمصر الحائزة منذ فجر الضمير ومنشأ التاريخ علي جائزة «عبقرية المكان والزمان»! ومن هنا شاعت أساطير أن المصري هو من استطاع - دون غيره من شعوب الدنيا - أن يدهن الهوا دوكو.. وأن يلبّس طاقية دي لدي!! بيد أن الشاعر قال قديما إن «ذكاء المرء محسوب عليه».. ومن هنا كانت «الثغرة» التي نفذت منها «سلبيات» عديدة شابت وتشوب الحراك المصري باتجاه التقدم، وتسببت - مع العوامل الخارجية الخارجة عن إرادته - في عرقلة إنجازه لمشروعه النهضوي الذي يستعيد له مجده التاريخي، الذي لا يشهد اكتمالاً إلي الآن! وذات يوم سألت أستاذنا الطبيب والعالم الموسوعي المغفور له دكتور محمود محفوظ، وكان وزيراً للصحة في ظرف العبور المجيد ومن بعد زاملته رئيساً للجنة التعليم بمجلس الشوري لسنين عديدة - سألته عن الفارق بين الشعب المصري - الذي هو أذكي شعوب العالم - وبين قرينه الشرقي صانع المعجزة اليابانية المعروف عنه تباطؤ التفكير وإحكام التدبير، والذي يضحك للنكتة ربما بعد سنة من استماعه واستيعابه وهضمه لها! فقال لي محفوظ رحمه الله: أبداً.. الفرق فقط في الجغرافيا لا في الجينات.. فجينات كل بني آدم واحدة، و قد ثبتت هذه الحقيقة لاحقا باكتشاف الخريطة الجينية البشرية، فلما قلت لمحفوظ زدنا بالله عليك فهماً قال لي: إن مصر هي أرض براح مستوية صنع النيل العظيم واديها الأخضر المستقر منذ آلاف السنين.. وهي لا تعرف من مخاطر الطبيعة إلا الفيضان العالي للنهر في بعض سنين «ما قبل السد العالي طبعاً».. فإن حدث ذلك - ظهر تضامن المصريين المُعبر عن انتمائهم الأصيل لوطنهم - ينهبون هبّة رجل واحد ومن الوزير للخفير - لمواجهة خطر الفيضان بتجسير حواف النيل في الأراضي المنخفضة نسبياً، بكتل الحجارة ما أمكنهم ذلك - فإذا ما انحسر خطر الفيضان.. عاد المصريون إلي «شتاتهم» داخل نفوسهم.. كما الجزر المنعزلة .. ليتفقوا علي ألا يتفقوا.. فيما تغلّب علي «نخبتهم» نوازع التبعثر والتشرذم.. والأنا المتضخمة.. وهكذا يفسد عملهم وتذهب ريحهم. قلت.. هذا يا عمنا محفوظ عن المصريين.. فماذا عن أولئك اليابانيين.. هل هم من الشياطين؟! فأجاب الراحل محفوظ: لا أبداً.. كل ما في الأمر أن اليابانيين يعيشون في أقصي الأرض حيث مشرق الشمس - فوق أربعمائة جزيرة وسط المحيط «فإن ما أدّفوش مع بعض يغرقوا»!! ومن هنا نشأت لدي اليابانيين وفي حضارتهم البعيدة «ثقافة عمل الفريق».. والإنجاز بروح الفريق - فإذا ما لاح لأحدهم أن ينسب نجاح جهد الجماعة لنفسه، بغرور الأنا المتضخمة .. كان هذا كالمسمار الذي يعلو علي مستوي غيره من المسامير فيكون نصيبه أن يدق إلي أسفل - ليعود إلي الصف من جديد! وهكذا فالفرق بين ثقافة المصري المتفرّد بذكائه الذي يجعله يُصر علي العزف منفرداً، وثقافة قرينه الياباني الذي لا يعمل إلا من خلال منظومة تعزف مع بعضها عزفاً أوركسترالياً.. فالفارق يا ولدي بين الثقافتين.. هو «فارق تراثي» يتعلّق «بالثقافة» السائدة التي يمكن إصلاحها، وليس فارقاً قدرياً لا سبيل إلي تغييره.. وهذا هو قول الجغرافي والمؤرخ المصري العظيم الراحل «جمال حمدان». رحم الله حمدان، وغفر للعالم محفوظ الذي نادي منذ ثلاثة عقود بتعميم زراعة النخيل والزيتون في ربوع مصر للإفادة من ثمارها وزيوتها.. فلم تفعلها مصر.. وفعلتها ماليزيا التي تُصدر زيت النخيل سنويا بمليارات الدولارات، بينما اكتفت مصر ذات الآونة بتلقي المعونة الأمريكية المشروطة والمغموسة بمذلة رهن الإرادة المصرية بعد تحرير سيناء بثمن فادح! أقول للقارئ العزيز.. لقد انهمرت علي خاطري هذه التداعيات.. لما وجدت فريقاً من النخبة المصرية الأكاديمية المثقفة - التي تُغطي بمقالاتها ومقولاتها الفردية عين الشمس في الصحف والمحافل - التي أصرّت وتُصر علي تعاطي السياسة من الصالونات المخملية لتعزف كل منها عزفها المنفرد.. عزوفها كذلك عن الانخراط في الأحزاب السياسية، بل إنها كثيرا ما عمدت وتعمد إلي تشويه صورة العمل الحزبي لدي الرأي العام.. متناسية أول الأبجديات في العلوم السياسية التي ربما تخصص بعضهم في تدريسها.. وهي أنه لا ديمقراطية ولا تداول للسلطة إلا من خلال آليات حزبية قوية متنافسة.. وفارق بين تقييم نتفق عليه للواقع الهش للمنظومة الحزبية الراهنة وبين تثبيت صورة مُظلمة للعمل الحزبي.. بما يُسهم في المزيد من عزلة الجماهير المصرية عن المشاركة السياسية. فإن أضيفت لظاهرة العزف الأكاديمي المنفرد.. للنخبة المصرية.. ظاهرة أخري تعمد إلي تصنيف الأحزاب القائمة ما بين أحزاب كبيرة وأحزاب صغيرة بلا سند ولا دليل ولا معيار موضوعي مُنصف.. وهذا ما تُصر عليه النخبة نفسها وقطاعات من الكتاب المنحازة بهواها لتري غير الحقيقة! لقد كان الحصاد من ذلك كله مزيداً من التبعثر والتشرذم لحراك النُخبة المصرية القائم علي قدم وساق هذه الأيام - وبهذا فليهنأ أهل الحُكم في مصر ببقائهم السرمدي فوق أنفاس وصدور المصريين.. ولا ثمة عزاء للشعب المصري المُحاصر بين شقي رحي.. ما بين حكامه وحكمائه.. وكأنهما وجهان لعملة واحدة! لقد بدأ علي الفور، ومنذ وفود طاقة الضوء التي أشعلت أملاً جديداً في نفوس المصريين، مما بشر بإحياء جديد للسياسة في مصر منذ مواتها عبر خمسة وخمسين عاماً مُمثلة في شخص المواطن المصري صاحب القامة والقيمة العالية د. محمد مصطفي البرادعي - أن ثمة فيروسات نُخبوية سرعان ما بادرت إلي حصار ومُحاصرة الأمل الجديد للمصريين في دائرة شُخوصها وذاتيتها الضيقة.. ولو بإقصاء من قد يكونون الأكثر حرصاً علي التضحية والبذل لإنجاح العمل. وهكذا قد تضيع علي أهل مصر آخر الفرص المتاحة «للتغيير» إذا ما انفرط العقد من جديد. ولسوف تثبت الأيام المقبلة.. أن طريق العمل الفردي من أجل التغيير.. هو يا ولدي طريق مسدود مسدود!.. وأن من المكابرة عدم التعامل الواقعي مع الشرعية المنقوصة في مصر علي صفتي الأغلبية المزعومة والمعارضة الموهومة.. حيث لا بديل عن خوض المصريين معركتهم الأخيرة مع الاحتلال الداخلي والهيمنة الخارجية.. إلا بالالتحام فوراً تحت مظلة حزبية قد تكون مُتاحة وواعدة لعدم إضاعة الوقت.. وحيث بدأ العد التنازلي لميقات الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يفصلنا عنها ما لا يزيد علي ثمانية عشر شهراً. وعلي هؤلاء الرومانسيين المحلّقين في خيالات الفضاء وتوابعهم - وبعضهم من المُنافسين المستترين علي مقعد الرئاسة - أن يهبطوا فوراً إلي أرض الواقع إن كانوا جادين بالفعل للنزال والنضال.. وإلا فضّوها سيرة بقي! وقي الله مصر شر مقاديرها.. ووقانا جميعا شرور أنفسنا.