أحب طالبات الفرقة الثانية بشدة، فهن مليئات بالحيوية ومشغولات دائما بشيئين فقط: الأول هو القفز فوق المقاعد ومحاولة التمشية عليها، والثاني (كما تعرفون) هو الموبايل. إلا أن الميزة الإضافية أنهن فعليا مهتمات اهتماما غريبا بالملك هنري الثامن الذي حكم إنجلترا من عام 1509 حتي عام 1547 (وهو العام الذي توفي فيه). المسألة بسيطة، في مادة الثقافة المقررة علي الفرقة الثانية يتم تناول تاريخ إنجلترا في القرنين السادس والسابع عشر. تكمن أهمية هذا الملك أن حركة الإصلاح الديني بدأت في عصره، إلا أنه أيضا فعل فعلته المهولة حيث أعلن انفصال كنيسة إنجلترا (بروتستانت) عن كنيسة روما (كاثوليك). يمثل هذا الجزء منعطفا مهمًا في تاريخ إنجلترا وفي الصراعات التي ستنشب فيما بعد، ولذلك حاولنا أن نوصله للطلاب بقدر الإمكان بحيث تكون الصورة واضحة. وهكذا بدأنا بمسألة رغبة هنري الثامن في الحصول علي وريث (ابن) للعرش من زوجته كاثرين، وعندما بدا ذلك صعبا كان الملك قد وقع في هوي آن بولين، إحدي وصيفات القصر. فبدأت محاولاته للحصول علي الطلاق من كاثرين وهي محاولات باءت بالفشل، وأنشأت عداوة بينه وبين الفاتيكان، وطارت فيها رقاب، الكلام واضح حتي الآن لكنني كلما أنظر في العيون أشعر أن هناك خللاً ما. سألت: فاهمين؟ فأجبن: فاهمين ومش فاهمين!! قالت لي الشقية التي تجلس في الخلف: هو إيه المشكلة في الطلاق، ما يطلقها براحته (ناهيكم عن الصدمة التي تلقيتها من استخفافهن بالطلاق)، أجبت أنه كان لابد من الحصول علي تصريح من البابا بأن الزواج باطل. فأجابت أخري: ليه الطلاق، ما يتجوز التانية عليها وخلاص (دخلنا أجواء مسلسلات)، فشرحت أنه في العقيدة المسيحية لا يجوز ذلك. بقدر ما كنت مصدومة من عدم معرفتهن ذلك بقدر ما كن هن أيضا مصدومات من تلك المعلومة! فأجابت ثالثة: يطلقها، مش هو الملك؟ عند ذلك أدركت أن مفهوم السلطة الاستبدادية القادرة علي القيام بكل ما تشتهيه قد تغلغل في نفوس هؤلاء الطالبات، ولهن حق فهن لم يرين أي نموذج مغاير. أعدت صياغة الشرح مرة أخري لأوضح العلاقة بين الكنيسة والملك، حتي وصلت إلي النقطة التي أعلن فيها هنري الثامن انفصال كنيسة إنجلترا عن كنيسة روما، عند ذلك ظهر الارتياح علي الوجوه فقد شعرن جميعا أن هذا التصرف يليق بملك. ثم وصلنا إلي الكيفية التي تعامل بها هنري مع المعارضين لانفصال الكنيسة، وكانت طريقة وحشية بشكل جذري، فقد حل جميع الأديرة وصادر ممتلكاتها وأجبر الرهبان والراهبات علي طلب العفو، وأخمد كل الفتن بسفك الدماء. لم يبد علي الوجوه أي دهشة، إنها السلطة من وجهة نظرهن وللملك كل الحق أن يفعل ذلك. توقفت لأسألهن: لماذا لا تبدين أي رد فعل تجاه ذلك القمع؟. فجاءت الأجوبة متراوحة ما بين: الملوك كلهم كده، أو المعارضة كلها كده. بدأت أهتم بردود أفعالهن بشكل غريب، وكن هن أيضا مهتمات بهذه الأحداث بوصفها مسلسلاً تليفزيونياً، حتي إن واحدة منهن قالت: وبعدين يا دكتور؟ حينها ضج الجميع بالضحك. وصلنا إلي مستشار الملك الخاص وهو توماس مور، صاحب كتاب اليوتوبيا الشهير. وقد رفض مور أن يؤيد الملك في قرار الانفصال والتزم الصمت الكامل، وهو ما لم يحم رقبته من الطيران مع من سبقوه. عند ذلك علت أصوات الاحتجاج، كأن «الفيلم» لم يحقق توقعات المشاهدين! ليه يقتله؟ أو لماذا رفض التأييد؟ مع انتهاء المحاضرة أدركت أن الطلاب غير قادرين علي استيعاب أي نموذج للسلطة مخالف لما ربوا عليه، وهم أيضا غير مدركين هذا النموذج هو بالتحديد ما حاربت إنجلترا لقرون طويلة من أجل تقويضه وهدمه، وبالتحديد من أجل ذلك السؤال الاستنكاري «مش هو الملك؟».