في طريق العودة إلي بيتي، طوال أربع سنوات الدراسة في جامعة القاهرة، لم يكن مطروحاً عليَّ اختيار أن أركب الأتوبيس إلي ميدان العباسية أو ميدان التحرير كُنت أختار بين أن أمشي في شارع الدقي- كوبري الجلاء- كوبري قصر النيل، أو أن أمشي علي كوبري الجامعة- شارع قصر العيني أو شارع المنيل. كُنت أفضل الاختيار الأول لأسباب كثيرة لم أكن أدركها وقتها... وأغتاظ قليلاً عندما يختار أصدقائي الطريق الثاني. في إحدي السنوات ربما كانت سنة 77 أو 1978 تغير خط سيري أو سيرنا. فبدلاً من أن نخرج من الجامعة قاصدين ميدان التحرير كنا نخرج قاصدين بيت أحد أصدقائنا اسمه «محمد النمر» كان طالباً في كلية الهندسة. وكان صديق أصدقائي.. حتي وقعت في غرام أمه وبيتها وطقوسها ورائحة أكلها وطعمه طبعاً. أصبحت أحب المشي علي كوبري الجامعة وأحب معهد السكر ومعهد طب المناطق الحارة ومعهد الأورام، حيث كان بيت «محمد النمر» أمام معهد الأورام وكان رقمه «1» شارع قصر العيني. أذكر ذلك الشعور بالراحة والاطمئنان الذي كان يملأ هذا المكان ويغطيني. كان محمد نفسه يتعامل معي بطريقة أبوية حنونة. كان أكبر مني بسنوات قليلة كنا- وقتها نعتبرها كثيرة لكنه يستمع إلي شكواي ويواسيني ولا يشكو لي. أحكي له عن قصة حبي الفاشلة وينصحني ولا أعرف أي شيء عن مشاعره ولا يطلب أبداً نصيحتي. يجيب عن أسئلتي الكثيرة في السياسة والفكر ولا يسألني. أحكي له كل الأسرار ولا يفشيها.. ولا يحكي لي في المقابل سراً واحداً. هل كان هذا الأداء من «محمد النمر» تجاهي له أثر في شعوري تجاه بيته؟ ربما. كُنت أطمئن لوجودي ساعة أو ساعتين في هذا البيت حتي لو لم يكن «هو الصديق صاحب البيت والدعوة» موجوداً في البيت. أجلس في أي مكان.. البيت كله مفتوح ؟؟ نور الشمس حتي باب الشقة يدخل منه نور قادم من نوافذ السلم الواسعة. آكل وأشرب كل ما يقدم لي.. رغم أنني في هذه السن كُنت قليلاً ما آكل ونادراً ما أشعر بالجوع. في بيت «محمد النمر» ذقت الكشري لأول مرة في حياتي!! كان عمري وقتها لا يقل بأي حال من الأحوال عن 18 سنة لكن كانت أمي تمنعنا من أكل كشري المحال لأنها تعتقد أنه مسمم. وكانت هي تعتبر أن الكشري هو العدس الأصفر والأرز!! فتطبخه لنا وتقدمه علي أنه كشري ونصدقها!! أما كشري أم محمد النمر فكان شكلاً وطعماً لا يمكن نسيانه. هل كان للكشري دوره في حبي للمكان؟ ربما ظللت أسأل نفسي عن السر كلما مررت علي البيت الذي ما زال قائماً علي رأس شارع قصر العيني. ولم أعرف الإجابة إلا الأسبوع الماضي إذا كانت تهمكم معرفتها سأكتبها غداً.