فيه واحد على قد حاله بيعصر ليمون على فول حار عشان يفطر على مزاج.. وبعدها بيرمي الليمون عادي.. لكن فيه واحد تاني أفقر منه يجمع قشر الليمون ده ويعمل به مشروع تنموي.. الواحد ده اسمه "صبري عبد العال" 70 سنة موظف على المعاش، عبقري الفقراء وأستاذ تنمية، يدير عدة مشروعات لقروض متناهية الصغر لا تتعدى 20 أو 30 جنيه للغلابة في القرى والعشوائيات، وتعتبر هذه القروض "نونو" بالنسبة للبنوك؛ لكنها تدرّ ربحاً كافياً لقوت أيام، وهذا أفضل من الصفر بالنسبة لمعدومي الدخل.
حاورت "بص وطل" عم صبري لتتعرف على نشاطه عن قرب..
كيف بدأت يا عم صبري؟ ومن أين تعلمت التنمية؟
الحياة علمتني الكثير.. وأكتر حاجة بتعلم كويس هي الحرمان، والصعوبة في عيشتنا تجدها في أعماق الريف والصعيد في الحواري والعشش.. في صِغري كنت مرافقاً لوالدي وأنا عندي 8 سنوات؛ لأنه كان كثير السفر بحكم عمله كمقاول بناء بسيط في الأراضي الزراعية، وهناك رأيت الفقر بعينه، وفي مرة طلبت أدخل دورة المياة فعرفت أن الناس كلها ليس في بيوتهم ما يلائمني؛ فرشّحوا لي دورة مياه جامع القرية، ووجدت في الجامع واحدة فقط سليمة عبارة عن قعدة بلدي وكوز، والبقية لا تصلح للاستخدام؛ فلما عدت لبيتنا في دمنهور جمعت كل الأكواز وزجاجات المياه والعلب المرمية في الشارع والزبالة بالرغم من رفض أمي لذلك وقتها، ثم ذهبت للقرية مرة أخرى وحطيت علبة في كل دورة مياه ليستخدمها الناس.. ومن هنا بدأت أفكر في أي حاجات صغيرة تنفع الفقراء وأقترحها عليهم؛ ليحققوا أي مستوى تنمية حسب معيشتهم.
كيف تبحث عن الفقراء وتصل إلى أفكار ملائمة لهم؟
أفكار المشاريع أبسط مما تتخيل، وتأتي من ملاحظاتي للناس ومعاشرتي لهم، فالمصريون فهلويون وشطّار، كما أن الحاجة دائماً أم الاختراع، وأنا لست إلا مساعداً للفقراء، أسافر كل حتة في مصر على قدر ما أستطيع، أبحث عن الذين ينامون على التراب ومش لاقيين لقمة يتعشوا بيها؛ فنحن سنُسأل عنهم يوم القيامة؛ فأفكر لهم في مشروعات صغيرة وأعطيهم رأس مال بسيط جداً يدر عليهم ربحاً مستمراً يقيهم شر الجوع، ويعد هذا أفضل من الصدقة ككيلو لحمة مثلاً أكلة يوم وينتهي الأمر، وأنا ضد الإعانات الشهرية تماماً؛ لأنها تعوّد هؤلاء الغلابة عليها دون عمل، وقد يجمعها من أكثر من مصدر ويحصل على راتب شهري دون أي مجهود؛ ولذلك أبحث عن أسر لديها مهارات، وسبحان الله ربنا يسوقهم لي وأساعدهم ليحافظوا على كرامتهم.
ما هي خطواتك في البحث عن الحالات وتنفيذ مشروع لهم؟
أذهب إلى القرى والنجوع مرتدياً جلباباً وشبشباً وشكلي بسيط مثلهم، وعندما أدخل منطقة جديدة أفتعل حركة بسيطة بملأ جيبي بعض الحلويات لأدخل السرور على الأطفال أولاً، وثانياً يوصلوني إلى الأهل، وأجلس على الأرض مثلهم وأشرب الشاي، أحكي بكلامهم وأتعرف عليهم عن قرب، وبعد التأكد من الحالة تأتي الفكرة المناسبة في وقتها من معيشتهم؛ فهم يحتاجون لدفعة تمويل بسيطة تشغّل العجلة التي توقفت؛ فأحاول تفتيح عقولهم لتحسين معيشتهم بحب العمل والإخلاص فيه والاعتماد على الله عز وجل، وتكثر الحالات في كل منطقة في مصر؛ فمثلاً في منطقة أبو زعبل وحدها يوجد 179 حالة، وحتى لا أنساهم أدوّنها كلها في كشكولي الخاص وأكتب ملاحظاتي وأفكاري بعد فحص مكان المعيشة بالكامل، وفي كل مكان أزوره أحرص على تكوين شبكة علاقات اجتماعية كبيرة تساعدني في البحث والتدقيق.
وبخصوص التنمية والقروض أعرف أن هناك 36 جهة في مصر تعمل على القروض متناهية الصغر تدرس الحالات جيداً وتعطيها القرض المناسب لنشاطه لضمان سداده فيما بعد -لكنها للأسف تعمل منفردة في كل منطقة لترأسها- فتعلمت منها تحديد القروض حسب إمكانية الحالات واستطاعتي أيضاً حتى أصبح لديّ المهارات في التمويل والإدارة.
صف لنا مشاريع القروض متناهية الصغر هذه، وكيف يعيش الفقراء منها؟
والله هذه القروض لا تتعدى 50 جنيها، بل وصلت في مرة إلى 7 جنيهات؛ فمبدئي "لا تستحِ من إعطاء القليل.. فالحرمان أشد منه"؛ فمتطلبات التجارة الصغيرة لبيع وشراء بعض الأغذية لا تتطلب أكثر من ال50 جنيه، فأعطيها حسب قدرته على تدويرها، ومن ثم يتيسر الحال ويتحول من تحت الصفر إلى واحد واثنين وهكذا حتى تمر الأيام ويرد القرض لي ولو بالتقسيط، وكثيراً ما يحدث أن أحوّل ما يردونه إلى الجامع، والفقير هنا لا يحتاج مالاً فقط؛ بل إلى رعاية واهتمام وتفكير تنموي أيضا، وبفضل الكلمة الطيبة التي لها تأثير السحر أجد القبول منهم؛ فأشجعهم دائماً لأن العامل النفسي مهم جداً وسط هذا الغم والفقر المدقع.
قل لنا بعض الأفكار التنموية التي نفّذت في مشاريع تنموية؟
مثلاً بعض القرى مشهورة بزراعة الليمون وكثرة استخدامه، والفكرة أنه بعد عصر الليمون أقترح عليهم تجميعه بكميات كبيرة ليتم تجفيفه ثم تقطيعه ووضعه في أكياس بلاستيك به ثقوب، ثم توضع هذه الأكياس وسط الملابس عند تخزينها فتعطي رائحة نفاذة جميلة وتقتل أي حشرات أفضل من أي مواد تجارية لتخزين الملابس بالأسواق، وتباع هذه الأكياس للمصانع والمخازن وللأفراد الذين يرغبون في التخزين.
اذكر لنا بعض الأمثلة وعن مشروعات القروض؟ وكيف تستردها؟
والله الغلابة كتير، ولو قعدت أقول لك لبكرة مش هنخلص.. فمثلاً سيدة غلبانة تذهب إلى محلات الحلويات في ميدان رمسيس وتشتري كسر التورتة وبواقي الحلويات وتجمعهم في صينية بشكل بسيط وتبيعهم للأطفال بالقطعة؛ فعرفت أنها قضت أكثر من يوم لا تزاول عملها وستموت جوعاً؛ فزرتها وكانت متوقعة وفقاً لكلام الناس أن أعطيها مئات الجنيهات كإحسان.. ولكني أعطيتها عشرين جنيها فقط كقرض لتشتري صينيتين وتمشّي حالها.
وسيدة أخرى تبيع الفجل، في يوم أنفقت أموالها ولم تجد ما تشتريه لتبيعه؛ فأصابتها الحسرة وسألت الناس؛ فذهبت إليها لأعطيها 7 جنيهات لتشتري بعض الحزم وتبيعها، ووصيت أصدقائي بالشراء منها كل مرة يمرون فيها أمامها، وجرت الأمور معها وزودت الفجل والخضرة، وبعد ذلك جاءت ترد لي القرض فأخذته خضرة وفجل بال7 جنيه.
شاب آخر اسمه سامي في القلج منطقة المرج عنده 30 سنة دبلوم صنايع يسكن في أوضة مخزن ومعه زوجته وطفلان، وكعادتي فأنا أفحص مكان المعيشة وما يحيطه؛ فوجدت عنده عشة فراخ مهدودة فقلبت فيها، ووجدت قدرة فول سليمة؛ لكن منعه مرض أحد أبنائه وعلاجه من شراء فول مدمس لليوم التالي؛ فلم يعاود تجارته عدة أسابيع، وأصبح معدماً تماماً لا يجد طعاماً هو وأسرته؛ فأعطيته 10 جنيهات لشراء 2 كيلو فول وجاز لطهيه على البابور بعد ما أصلحته له، وبعد كام يوم أصبح ريعه من القدرة 100 جنيه تقريباً، ثم اشترت زوجته عجينة طعمية وطاسة وزيت لتبيعها مع زوجها، ثم قابلته بعدها بسنة تقريباً فكان زعلان مني لأني لم أسأل عليه منذ وقتها، فقلت له مازحا: "أنت معندكش تليفون!!"، قال لي: "إزاي؟! اطلبني على المحمول"، فقلت له: "يعني لو طلبتك هترد عليّ"، قال: "لو مردتش عليك اطلب تليفون مراتي".. فقمت بزيارته ووجدت أن أموره تحسنت كثيراً، وفي بيته موبايلين، وطبعاً رد لي قرضي ال10 جنيه على داير المليم.
كيف يتصرف عم صبري داخل بيته وفي محيطه الشخصي؟
في منزلي أخصص جزءاً منه لتخزين أي شيء متبقٍّ كما تعودت في صغري، وأبحث عند أصدقائي أيضاً عن أشياء متبقية أجمعها أيضاً فستأتي أفكارها فيما بعد؛ فمثلاً صديق لي صحفي بالأهرام ذهبت إليه أسأله ما تبقى عنده ولم يرمِه؛ فوجدت كماً كبيراً من الجرائد القديمة فأخذتها، وعندما قابلني بعدها سألني ماذا فعلت؟.. فقلت له: "ده فيه راجل قعد يدعي لك إمبارح، ما كانش بيعرف ينام من السقعة كل يوم، فاديتله الجرايد يتدفى بيهم.. فنام مبسوط بيشخر طول الليل"؛ فضحك بصوت عالي وقال: "لم يكن في ذهني تماماً أن هذه الجرائد سيكون لهم لزوم".. وحتى لو كانت هدوم مهلهلة وخرق بالية بالتأكيد ستنفع؛ فهناك أناس في غاية الفقر يستخدمونها ك"تخشينة" تحت الملابس لتدفئهم في الشتاء.
أتوقع أنك قابلت مواقف مزعجة أثناء عمل الخير؛ خصوصاً في بحثك عن الأشياء التالفة؟
بالفعل لكن والله لا أستحي في الخير أبداً؛ مهما قال الناس عني أتمسك بمبدئي.. وبالمناسبة أنا أمين صندوق لجنة الرحلات في نادي المعادي، وفيه مرة نظمت رحلة للعريش لأعضاء النادي، وهم من كبار المناصب والرتب العسكرية، وبعد الإفطار وجدت أن هناك طعاماً كثيراً متبقياً؛ فجمعته ولفيته في ورق جرائد وسط نظرات الاشمئزاز من الأعضاء والسيدات واعتراضهم على وجودي أصلاً؛ ولكني لم آخذ في ذلك بالاً، وكلما وجدت عسكري في طريق العودة في الصحراء أعطيه بعضا من هذه الأطعمة والمشروبات، فعرفوا لماذا صنعت هذا؟ ومن بعدها أصبح كل عضو في النادي يساعدني في هذه اللفات.
رجل فوق العادة.. هو "عم صبري"، كما يحب أن يناديه الناس، أستاذ التنمية وبنك القروض النونو.. لو قابلته لن تمل أبداً من حكاياته وأفكاره، وستتعجب كيف يفعل كل هذا في مثل سنه وبخطواته الثقيلة؟!