لثوانٍ، وفي هدوء شديد، لا يعكس ما يعتمل في أعماقه، جلس مدير المخابرات العمومية، للعالم الموازي، يتطلّع إلى المفتش رياض الذي بدا على عكسه شديد التوتّر، يفرك كفيه في عصبية، وإن ظلّ مثله صامتا، حتى قطع مدير المخابرات حالة الصمت المهيبة، وهو يقول: - ليس مِن التقليدي أن أستقبل بنفسي زائرا دون موعد سابق، ولكن دعني أسألك: بمَ يمكن أن أخدمك أيّها المفتش رياض؟! تنحنح المفتش رياض كعادته، قبل أن يقول في لهجة عكست توتّره: - ما جئت من أجله ليس تقليديا يا سيادة الوزير، ولكنني أؤمن بأنني لن أجد الجواب سوى هنا. تراجع مدير المخابرات العمومية في مقعده في بطء، وهو يسأله بنفس الهدوء: - وعن جواب أي سؤال تبحث بالضبط؟! بدا وكأن هذا السؤال الأخير قد أطلق لسان المفتش رياض مِن عقاله؛ فاندفع يقول في انفعال: - صباح اليوم، نجح مجرم القرن في مغادرة مصر، منتحلا شخصيتي. قال المدير في خفوت، وهو يشبك أصابع كفيه أمام وجهه: - علمنا هذا. تابع رياض، وكأنه لم يسمعه: - العجيب أنه قد تجاوز كل إجراءات الأمن، حتى فحص ومراجعة البصمات، وكان تنكّره متقنا إلى حدّ مذهل. صمت المدير لحظة، ثم قال: - نحن على معرفة كاملة بقدراته؛ فقد كان أحد رجالنا كما تعلم. هزّ رياض رأسه بلا معنى، وتنحنح مرتين، وكأن هذا وسيلته لمقاومة توتره، ثم قال: - هذا أعلمه جيّدا، ولكنني أعلم أيضا أن بعض الأمور لا يمكن لفرد وحده القيام بها، و... بتر عبارته في ارتباك شديد، فران على مكتب المدير صمت جديد، استغرق بضع ثوانٍ، قبل أن يتساءل المدير في بطء: - وماذا؟! اندفع رياض مرة أخرى، يقول في توتر: - ولا بد وأن تدعمه جهة ما، بكل ما تملك من إمكانيات. مرة ثالثة، خيّم صمت مهيب على المكان، رمق المدير خلاله المفتش رياض بنظرات ثاقبة، قبل أن يعتدل بحركة مفاجئة، متسائلا في صرامة: - ما الذي ترمي إليه بالضبط أيّها المفتش؟! تنحنح رياض بكل توتره هذه المرة، وهو يقول: - كنت أبحث عن الجواب هنا يا سيادة الوزير. عاد المدير يتراجع في مقعده، ويرمقه بنفس النظرات الثاقبة التي زادت من توتره، وجعلته يسعل بدلا من أن يتنحنح؛ فقال المدير في صرامة: - لست أظنّك تجد جواب سؤالك هنا أيها المفتش. قال رياض في عصبية: - بل أظنّ الجواب هنا بالفعل يا سيادة الوزير، ولكنّ أحدا لا يريد الإفصاح عنه.. بدا المدير أشدّ صرامة، وهو يقول: - عملنا هنا لا يعتمد على منح الأجوبة أيّها المفتش. ثم نهض واقفا، وهو يضيف، وكأنما يعلن انتهاء المقابلة: - ولكننا قد نجيب تساؤلك، عندما نتوصّل إلى الجواب.. تشرّفنا بزيارتك. نهض رياض بدوره، وهو يتنحنح على نحو متصل، قبل أن يقول في عصبية: - قبل أن أنصرف، أحب أن أنقل لسيادتك شعورا يعتريني يا سيادة الوزير. سأله المدير في صرامة: - أي شعور هذا؟! استند رياض براحتيه على سطح مكتب المدير، ومال نحوه، قائلا في حزم، لم يخلُ من لمحة عصبية: - فكرة تحوّل أكرم صدقي من رجل مخابرات فذ، إلى مجرم القرن، لم تنجح في إقناعي قط. قالها، واعتدل في حزم، متبادلا نظرة قوية مع مدير المخابرات العمومية، قبل أن يستدير ويغادر المكتب في خطوات ثابتة.. ومع انصرافه، عاد نائب المدير إلى المكتب، وتبادل مع المدير نظرة صامتة، حملت الكثير من المعاني.. والكثير جدا.. جدا..
*** انعقد حاجبا صوفيا جريشام الجميلين في شدة، وهي تتطلّع إلى ريكو الراقد على فراش طبي، في المستشفي الذي تملكه دونا كاترينا في روما، وقد بدا زائغ النظرات إلى حدّ كبير، ودونا كاترينا تقول في اهتمام: - عاد من مصر، على هذا النحو الذي ترينه، وبَقِي جالسا في مطار روما، لا يدري من هو، ولا أين ينبغي أن يذهب. سألتها صوفيا، وهي تُشعل سيجارتها في عصبية، على الرغم من اللافتات التي تمنع التدخين في المكان: - ماذا أصابه بالضبط؟! هزّت دونا كاترينا رأسها نفيا، وهي تمدّ يدها لتنتزع السيجارة من بين شفتَي صوفيا، وتناولها إلى أحد رجالها، مجيبة: - كل ما يذكره أنه قد فَقَد وعيه داخل المنزل الذي أرسلته إليه في مصر، وعندما استعاده، وجد نفسه وحيدا هناك، وفي جيبه جواز سفره، وتذكرة عودة إلى روما، في الصباح التالي الذي كان قد اقترب بالفعل، فما كان منه إلا أن استقلّ سيارة أجرة إلى المطار، وعاد إلى هنا، وهو لا يذكر ما الذي ينبغي أن يفعله بعد وصوله! سألتها صوفيا، وهي تحاول إشعال سيجارة أخرى: - وماذا عن البرنامج؟! استوقفتها دونا كاترينا في صرامة: - ألا تجيدين قراءة الإيطالية؟! أجابتها صوفيا في عصبية شديدة: - التدخين يُساعد على تهدئة أعصابي، والمفترض أنك تملكين المكان، و... قاطعتها دونا في صرامة شديدة: - ولكنني لست مستعدّة للدخول في مشكلات تافهة، مع الإدارة الصحية التابعة للحكومة. مطّت صوفيا شفتيها في حنق؛ فأردفت دونا في صرامة: - ثمّ عن أي برنامج تتحدّثين؟! أشاحت صوفيا بوجهها، قائلة في حدة: - اتفقنا على أن أخبرك بكل شيء بعد أن تنتهي العملية. قالت دونا بنفس الصرامة: - وماذا لو أن هذا لم يعد يرضيني؟! قالت صوفيا في حدة أكثر: - عليك التعايش مع هذا إذن.. الاتفاق هو الاتفاق. نطقتها، ثم دفعت الباب الزجاجي لحجرة ريكو، واندفعت نحو هذا الأخير، تسأله في غضب: - أين البرنامج؟! تطلع إليها ريكو في ذعر يمتزج بالحيرة، وهو يتساءل: - أي برنامج؟! صاحت به في حدة: - البرنامج الذي أرسلتك لإحضاره من مصر. تواصلت الحيرة المطلّة من عيني ريكو لحظات، قبل أن يغمغم: - أذكر شيئا عن هذا.. ولكن.. قاطعته بنفس الحدة: - لا يوجد لكن.. هذا البرنامج يساوي حياتك.. هل تفهم؟! تضاعف الذعر، في ملامحه وعينيه، وهو يقول: - ولكنني لست أذكر شيئا.. أقسم لك. اعتدلت في حركة حادة، قائلة: - لست أصدّقك. هتف في ذعر: - ولكنني أقسم.. قاطعته دونا كاترينا هذه المرة، وهي تقول في صرامة: - لا تحاول يا ريكو.. لن تصدّقك، مهما قلت أو فعلت. امتزج ذعره بحيرته، وهو ينقل بصره بين المرأتين، فأضافت دونا بكل صرامة: - ولكن هناك وسيلة لحسم هذا. سألتها صوفيا في عصبية: - وكيف يمكن حسم أمر كهذا؟! أجابتها دونا في حزم: - جهاز كشف الكذب.. ألديك أي اعتراض على هذا يا ريكو؟! واتسعت عينا ريكو، وتضاعف الذعر في ملامحه وعينيه.. ولكن دون أن يجيب.. على الإطلاق..
*** "هذا خطأ.." قالها الدكتور راضي شقيق رياض، في توتّر شديد، جعل هذا الأخير يسأله في عصبية واضحة: - ماذا تعني؟! ألا توجد وسيلة واحدة للتفرقة بين سكان هذا العالم، وسكان العالم الموازي، الذي أحضرنا منه أكرم الآخر؟! تطلّع إليه راضي بضع لحظات في حيرة، وكأنه لم يفهم السؤال، قبل أن يهز رأسه في قوة، مجيبا: - بالطبع توجد وسيلة. وتحوّلت لهجته فجأة إلى الحماس العلمي الشديد، وهو يضيف: - العوالم المتوازية السبعة، تشترك كلها في مساحة كونية واحدة، ولكن لكل منها ذبذبة خاصة، تجعله غير مرئي وغير محسوس، بالنسبة للعوالم الأخرى، تماما مثل الموجات الرقمية الفائقة التي تحتلّ كلها حزمة ترددات واحدة، ولكن لا تتداخل موجة منها مع الأخرى أبدا. لم يستوعب رياض كل هذه المصطلحات العلمية؛ فقال بنفس العصبية: - ثم ماذا؟! لوّح راضي بيديه في حماس، متابعا: - وباستخدام مقياس طيفي ذبذبي ذي طبيعة خاصة، يمكنك أن ترى أي مخلوق، قادم من عالم مواز، وكأنما تحيط به هالة خاصة، يتغيّر لونها، كلما اقترب موعده. ردّد رياض في عصبية حائرة: - موعده؟! أومأ راضي برأسه إيجابا، وهو يقول: - بالطبع... عند وصوله إلى عالمنا، تحيط به هالة بيضاء اللون، تتحوّل بعد أربع وعشرين ساعة إلى اللون البرتقالي، ثم تتحوّل إلى اللون الأحمر، خلال الأربع وعشرين ساعة التالية، وهذا يعني أن ذرات جسده ستتفكّك، إن لم يعد إلى عالمه، قبل مضي ثلاث ساعات، وإلا لتحوّل لون الهالة إلى الرمادي، وانهارت خلاياه دفعة واحدة. اتسعت عينا رياض لحظات، قبل أن يتساءل: - وأين هو ذلك المقياس الطيفي الذبذبي؟! أشار راضي إلى جهاز كبير، وهو يجيب: - ها هو ذا. حدّق رياض في الجهاز الضخم لحظة، قبل أن يستعيد عصبيته، قائلا: - وكيف يمكن أن يفيدني جهاز في حجم ثور؟! أومأ راضي برأسه، قائلا: - آه... تقصد وسيلة صغيرة متنقّلة. هتف رياض في عصبية: - بالضبط. أومأ راضي برأسه متفهّما، واستدار يلتقط منظارا كبيرا، داكن العدسات، ويناوله إياه، قائلا: - هذا سيؤدّي الغرض.. فقط اضغط الزر الأصفر، وسيعمل بكفاءة. اختطف رياض المنظار في لهفة، وهو يقول: - فقط اضغط الزر الأصفر. ابتسم راضي، هو يقول: - بالضبط. تهلّلت أسارير راضي لحظات، ثم عاد إليها التوتر، وهو يسأل: - ولكن مهلا.. إنك تتحدّث عن ثلاثة أيام، وليس أربعة، كما أخبرتني في البداية! عقد راضي حاجبيه، وهو يقول: - بل يومين وثلاث ساعات بالتحديد.. هذا هو الخطأ الذي كنت أخبرك عنه، قبل أن تجرني إلى الحديث عن المقياس الطيفي الذبذبي.. أي كان نحضره إلى عالمنا، من عالم موازٍ، يتفكّك كيانه تماما، لو بَقِي في عالمنا لأكثر من خمسين ساعة. واتسعت عينا رياض عن آخرهما.. فما قاله شقيقه، يعني أن ساعات أكرم صدقي عالمنا تتناقص في سرعة.. وأن حياته صارت في خطر.. خطر بلا حدود،،،
*** يُتبع الحلقات السابقة: د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (1) د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (2) د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (3) الهدف أنت (4).. حلقة جديدة لدكتور نبيل فاروق الهدف أنت (5).. حلقة جديدة لدكتور نبيل فاروق الهدف أنت (6).. حلقة جديدة لدكتور نبيل فاروق الهدف أنت (7).. حلقة جديدة لدكتور نبيل فاروق الهدف أنت (8).. حلقة جديدة لدكتور نبيل فاروق