اتسعت عينا حسام، بكل الدهشة، في نفس الوقت الذي انعقد فيه حاجبا أكرم صدقي، وهو يحدق في وجه المفتش رياض، الذي تنحنح كعادته، وهو يقول: - أنتما لا تصدقان ما أقوله.. أليس كذلك؟! لم يحاول حسام التعليق، في حين سأل أكرم في حذر: - هل كنت لتصدّقه، لو تبادلنا الأدوار؟! هزَّ رياض رأسه في بطء، مجيبا في خفوت: - مستحيل! ثم استدرك في سرعة: - ولكنه حقيقة. مال أكرم نحوه، يقول في حزم: - حقيقة تحتاج إلى برهان قوى. صمت رياض، بضع لحظات، قبل أن يقول: - لك كل الحق. ثم أخرج شيئا من جيبه، وهو يضيف: - ولقد توقع شقيقي راضي هذا؛ لذا فقد سمح لي بإحضار شيء من عالمي إلى عالمكم. وضع لوحا صغيرا شفافا، أمام أكرم وحسام، مع استطرادته: - فوفقا لمشاهداته، عالمنا يتفوَّق على عالمكم تكنولوجيا، بخمس سنوات من التطوَّر، ومع سرعة إيقاع التطوَّر التكنولوجي، سيصنع هذا فارقا تكنولوجيا ملحوظا. تطلَّع حسام إلي ذلك اللوح في حذر، وحسام يتساءل: - وماذا يفعل هذا الشيء بالضبط؟! التقط أكرم ذلك اللوح، مع إجابة رياض: - اختبره بنفسك. رفع أكرم ذلك اللوح الشفاف أمام عينيه، ثم تراجع في دهشة.. فاللوح، مع شفافيته، كان ينبغي أن ينقل إليه صورة ما خلفه.. إلا أن هذا لم يحدث!! لقد نقل إليه صورة مختلفة تماما.. صورة منزل آخر.. منزل يختلف.. يختلف في تقسيمه.. وأساسه.. وحتى ديكوراته.. وبكل دهشته، خفض أكرم اللوح من أمام عينيه، فعاد منزله للظهور في وضوح، ورياض يقول، في توتر لم يستطع إخفاءه: - ما تراه عبر هذا اللوح، هو عالمي وليس عالمك؛ فهو بوسيلة ما، لا أستطيع حتى فهمها أو استيعابها، يخترق الحاجز بين عالمينا، مما يجعله أشبه بنافذة بين عالمين. مال حسام يلتقط اللوح من أكرم، وهو يقول: - ومن أدرانا أنها ليست خدعة تكنولوجية؟! هزَّ رياض كتفيه، مغمغما في توتر: - لست أدرى في الواقع كيف يمكنني إثبات هذا، فأنا رجل أمن في عالمي، وقع الاختيار علي، للعبور إلى عالمكم، وتقديم العرض للسيد أكرم صدقي، وكنت أعلم مسبقا أنني سأواجه بكل هذه الشكوك؛ لأنني في عالمي رجل أمن محترف، ولو جاء أحدهم، ليخبرني بأنه من عالم آخر، لأحطته بقيد من الشك والاستنكار أيضا. رفع أكرم اللوح إلى عينيه مرة أخرى، ودار به فيما حوله في اهتمام، قبل أن يخفضه، وهو يقول في هدوء: - من حسن حظكم أن إجازتي لم تنته بعد. هتف حسام مستنكرا: - هل يعني هذا أنك تنوي قبول العرض؟! هزَّ أكرم كتفيه، وأجاب بنفس الهدوء: - ولم لا؟! إنها تجربة جديدة، أجد في نفسي شغفا للقيام بها. حدَّق فيه حسام مستنكرا، في حين بدا رياض شديد الترقب، والأوَّل يقول: - ولكنك تعرف القواعد جيدا.. لا يمكنك التعاون مع أية جهات أخرى، دون الحصول على موافقة الجهاز. أجابه أكرم بكل هدوء: - أعرف القواعد جيدا يا عزيزى حسام. ثم التفت إليه بابتسامة عجيبة، مضيفا: - ولكن لا توجد قاعدة تتعلَّق بالتعاون مع عالم آخر. تراجع حسام بنفس الدهشة المستنكرة، في حين تابع أكرم، وابتسامته تتسع: - وتذكَّر أنك أنت من أقنعتني بقضاء إجازتي في مكان ما. انعقد حاجبا حسام، وهو يقول في عصبية: - هذا لأنك ستطلق على هذا اسم إجازة. أما رياض، فهتف في لهفة: - أيعني هذا أنك توافق على قبول عرضنا؟! هزَّ أكرم كتفيه، وهو يجيب: - ليس في كل مرة، يجد المرء نفسه في مواجهة نفسه. غمغم حسام في توتر، وهو يشيح بوجهه: - سأتظاهر بأنني لم أسمع هذا. حاول رياض أن يبتسم، إلا أن شيئا في أعماقه جعله يقول في تردد: - في هذه الحالة، هناك ما ينبغي أن أخبرك به يا سيد أكرم. ابتسم أكرم، وهو يقول: - أما زال هناك المزيد؟! أومأ رياض برأسه إيجابا، قبل أن يقول بنفس التردد: - في مواجهتك مع.. أكرم صدقي عالِمنا، لا بد وأن تعلم أنه من الضروري أن يتم حسم المواجهة خلال ثلاثة أيام فحسب. التقى حاجبا أكرم، في حين التفت إليهما حسام مرة أخرى، متسائلا في توتر: - ولماذا ثلاثة أيام بالتحديد؟! هزَّ رياض كتفيه، وبدا تردده أكثر وضوحا، وهو يقول: - الواقع أن تقنية الانتقال بين العالمين، لم تصل بعد إلى مرحلة الكمال. سأله أكرم في اهتمام: - وهذا يعني؟! تردَّد لنصف دقيقة على الأقل، قبل أن يجيب: - لو بقيت في عالمنا، أكثر من هذه المدة، ستضيع الفرصة في.. بتر عبارته في ارتباك، فسأله حسام بكل القلق: - ستضيع الفرصة في ماذا؟! ازدرد لعابه في صعوبة، وتنحنح مرتين، قبل أن يجيب: - في أن يعود السيد أكرم إلى هنا. وتنحنح مرة أخرى، قبل أن يتابع في صوت منخفض: - وسيكون عليه أن يبقى في عالمنا.. إلى الأبد. ألقى قنبلة، فران على المكان صمت رهيب مهيب.. فتلك المعلومة الأخيرة، كانت تقلب كل الأمور رأسا على عقب.. وبمنتهى القوة.. *** ارتفعت يد ضابط الأمن، في مدينة الأبحاث العلمية بتحية عسكرية قوية، وهو يواجه الرجل الواقف أمامه في احترام، قائلا: - مرحبا بك في مدينة الأبحاث يا سيادة اللواء.. تقبَّل اعتذاري مقدما، ولكن لم تردني أية معلومات بشأن زيارتك لنا اليوم. شدَّ اللواء قامته، وهو يقول في صرامة: - أنا الذي أصدر تلك المعلومات والتعليمات أيها الضابط، وهأنا ذا أقف أمامك بشحمي ولحمي، فماذا تريد أكثر من هذا؟! ارتبك الضابط، وهو يقول: - ولكن جرت العادة يا سيادة اللواء على أن.. قاطعه اللواء بكل صرامة: - أفسح الطريق. تنحَّى الضابط جانبا، وهو يغمغم: - هل يمكنك على الأقل أن توقع في دفتر الزائرين يا سيادة اللواء؟! قال اللواء في استنكار: - دفتر الزائرين؟! ثم استدرك، مع امتقاع وجه الضابط: - ولكن لا بأس على أية حال.. لن أكون أنا من يخرق تعليمات الأمن. وانعقد حاجباه الكثين في صرامة، وهو يضيف: - التي وضعتها بنفسي. ناوله الضابط دفتر الزائرين بيد مرتجفة، وهو يغمغم: - رجال الأمن هم أوَّل من ينبغي أن يلتزموا بقواعد وتعليمات الأمن.. هكذا تعلمنا يا سيادة اللواء. التقط اللواء قلما إليكترونيا رفيعا، ووقع باسمه في دفتر الزائرين، ثم عبر بوابة مدينة الأبحاث في تعالٍ، والضابط يؤدي له التحية العسكرية مرة أخرى، ولكنه ما أن ابتعد، حتى التقط الضابط هاتفه، وطلب رقما مختصرا، قبل أن يقول في خفوت، وكأنه يخشى أن يسمع اللواء: - سيادة اللواء فتحي جابر وصل إلى المدينة، دون أية معلومات مسبقة، وأظنه تفتيشا أمنيا مفاجئا. فاجأه صوت غاضب صارم: - أي قول أحمق هذا يا رجل؟! أنا اللواء فتحي جابر، ولم أغادر مكتبي منذ الصباح.. من هذا الذي انتحل شخصيتي، ونجح في خداع حمقى مثلكم؟! وكاد الهاتف يسقط من يد ضابط الأمن المصعوق.. فالشخص الوحيد، الذي يمكنه انتحال هيئة آخر، بحيث يعجز الآخر نفسه عن كشفه، هو الرجل الذي تبحث عنه كل جهات الأمن، في هذا العالم الموازى.. أكرم صدقي.. مجرم القرن.. الوحيد.. *** هكذا يكون التحدي.. قالها أكرم صدقي، في هدوء عجيب، قاطعا حالة الصمت الرهيب، التي خيمت على المكان، فارتفع حاجبا حسام، قبل أن يهتف مستنكرا: - هل ستقبل هذه المهمة العجيبة، بعد ما قاله هذا ال.. هذا الرجل؟! التفت إليه أكرم، قائلا: - اهدأ قليلا يا صديقي، ودعنا نعيد دراسة الموقف كله، على نحو مختلف.. إننا أمام موقف، لم يمر به بشري من عالمنا من قبل.. أو أن هذا ما أعتقده على الأقل.. موقف يستعين فيه عالم بشخص من عالم آخر، ليواجه نفسه بنفسه. قال حسام في حدة: - تتعامل مع الأمر كما لو كان لعبة مسلية. هزَّ أكرم رأسه نفيا، وهو يقول: - ليس لعبة بالتأكيد، ولكنه حالة عجيبة، لم يخطر ببالي أن أواجهها، حتى في أبشع كوابيسي.. ولكنه تحدٍ من نوع جديد.. تحدٍ أن أواجه شخصا، يتمتع بكل ما أحمله من صفات، وما اكتسبته من مران وخبرات، طوال سنوات وسنوات من الصراع، مع أجهزة مخابرات، ومنظمات جاسوسية وإرهابية، وحتى إجرامية.. ومن الناحية المنطقية، فهذا أكثر خطورة بكثير، وخاصة عندما يكون الزمن محدودا إلى هذا الحد.. ولكنني، ولسبب ما في أعماقي، لست أرغب في قبول التحدي وخوض التجربة فحسب، ولكنني شديد الشغف أيضا؛ لمعرفة الأسباب الحقيقية، التي دفعت شخصا في عالمهم، إلى نبذ كل ما نذر حياته من أجله؛ لينتقل من مجال حماية الوطن وأمنه، إلى مجال الجريمة، وتقويض أركان المجتمع.. أريد أن أعرف.. وأن أفهم.. فلو أنه تربى كما تربيت، ونشأ كما نشأت، فسيكون من المستحيل أن ينقلب لمائة وثمانين درجة على هذا النحو، إلا لو كانت لديه دوافع شديدة القوة. وصمت لحظات، عاد خلالها ذلك الصمت المهيب يسيطر على المكان، قبل أن يضيف في حزم: - أريد أن أعرف يا حسام.. صدقني.. أريد أن أعرف. تطلَّع إليه حسام في صمت لبضع لحظات أخرى، ثم تراجع مغمغما: - هذا حقك. شعر رياض بالارتياح، وهو يتساءل: - إذن فأنت تقبل. مدَّ أكرم يده إليه، وهو يقول مبتسما: - فقط عندما تخبرني، كيف ومتى سننتقل إلى عالمك؟! اندفعت يد رياض نحو يده، وهو يقول في لهفة: - الآن.. وتصافح الرجلان.. أو تصافح العالمان.. وبقوة.. فاعتبارا من تلك اللحظة، سيبدأ أكرم صدقي أغرب مهامه.. وأخطرها.. على الإطلاق. *** يُتبع الحلقات السابقة: د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (1) د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (2)