لم يشعر "حاتم" في حياته كلها، بذلك المزيج من الإرهاق والتوتر، مثلما شعر بهما في تلك اللحظة، وهو يغلق عينيه، في ركن مكتب "هشام حمزة"، وذلك الضخم يقف إلى جواره، ويمسك كتفه في قوة، وكأنه يحاول منعه من الفرار؛ على الرغم من وجوده داخل المبنى الرئيسي لأمن الدولة، في "مدينة نصر".. كان "هشام" منهمكاً في حديث تليفوني هامس، وكل ملامحه تشفّ عن خطورة هذا الحوار السري؛ فحاول هو، على الرغم من سخافة الموقف كله أن يسترخي، وأن يحظى ولو بدقيقة أو دقيقتين من النوم.. - "وجودك هنا لم يعد آمناً..".. نطقها حارسه الخاص في حزم، وهما يقفان على قمة ذلك النصب التذكاري الكبير، الذي أقيم في نهاية النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، فرفع عينيه إليه في توتر، وقال بلهجة تشوبها نبرة عصبية: - لن أتخلى عن مسئولياتي بهذه السهولة. قال الحارس الخاص، في حزم أكثر: - ولكن ابتعادك صار ضرورة حتمية. تزايدت عصبيته، وهو يجيب: - هذا بالضبط ما ينشدونه بمحاولاتهم هذه.. أن أشعر بالخطر، وبالخوف على حياتي، وأن أبادر بالفرار.. قال الحارس في صرامة: - وهذا ما ينبغي أن تفعله بالفعل. لوَّح بذراعيه في حدة، هاتفاً: - وأتخلى عن كل هذا؟! هل نسيت لماذا أقيم هذا النصب الخاص، الذي نقف فوقه؟! لقد أقيم لتمجيد ثورة الحرية.. تلك الثورة التي استعاد بها هذا الشعب كرامته وحريته، بعد ما يقرب من قرن من الزمان، رزح خلاله تحت نير الظلم والجبروت.. إنه رمز الحرية يا رجل.. الحرية التي يحاولون سلبها من هذا الشعب ثانية، وهذا ما لا يمكن، بل ويستحيل أن أقبل به أبداً. أمسك حارسه الخاص ذراعه، هاتفاً: - وجودك هو الدعامة الأساسية لهذه الحرية، ولهذا يجب أن تبقى. جذب يده في حدة، هاتفاً: - خطأ.. وجود الشعب وإرادته هو الدعامة الأساسية والرئيسية والوحيدة للحرية.. الأفراد زائلون؛ ولكن الشعب والوطن باقيان.. فكرة ارتباط الحرية بفرد واحد هي قمّة الديكتاتورية.. هتف الحارس الخاص، وقد تحوَّلت صرامته إلى عصبية واضحة: - ولكنك لم تكمل برنامجك بعد، ووجودك مازال ضرورياً، وإلا فلماذا يحاولون اغتيالك الآن؟! لماذا؟! - "هذا ليس فندقاً.." انتزعته صرخة "هشام" الصارمة من عالمه الخاص، وأخرجته من نومه، لتلقي به بعنف في عالم الواقع؛ فانتفض جسده، وهو يفتح عينيه في سرعة؛ فوجد "هشام" يقف أمامه مباشرة، وهو يكمل في شراسة: - من سمح لك بالنوم؟! تنحنح في توتر، واعتدل في مجلسه، مجيباً في صوت أشبه بالغمغمة: - جسدي المنهك. صرخ فيه، في شراسة أكبر: - لم يحن وقت النوم بعد. قالها، ورمقه بنظرة وحشية، قبل أن يعود إلى ما خلف مكتبه، ويضيف في قساوة: - ستنام عندما تخبرني بكل ما لديك. قال "حاتم" في توتر: - لقد أخبرتك به بالفعل. ابتسم "هشام" ابتسامة شديدة العصبية، وهو يقول: - أنت لم تستوعب ما يمكننا أن نفعله بك.. أليس كذلك؟! زفر "حاتم" في إرهاق، وسأله في عصبية: - ما الذي تريد معرفته بالضبط؟! أشاح "هشام" بوجهه عنه، وهو يقول في صرامة: - ما علاقتك بذلك التنظيم الإرهابي بالضبط؟! ومن يموّلكم ويعاونكم من خارج البلاد؟! حدّق فيه "حاتم" في دهشة مستنكرة، وهو يقول: - تنظيم إرهابي، وخارج البلاد؟! من أين أتيت بهذا؟! أجابه "هشام" في صرامة شديدة: - من اعترافاتك. كاد يهبّ من مقعده، وهو يهتف مستنكراً: - اعترافاتي؟! دفعه الضخم من كتفه في قوة وغلظة؛ في حين تابع "هشام" بنفس تلك الصرامة الوحشية: - الاعترافات التي ستوقّعها بنفسك هنا.
* * * ارتفعت يد (حاتم) في سرعة خرافية لتمسك قبضة الضخم قبل أن تلمس فكه (رسوم فواز) - "هل جننت؟!" صرخ بالعبارة في غضب مستنكر؛ فهوى ذلك الضخم على فكّه بلكمة قوية، قبل حتى أن تنتهي صرخته، و.. ولدهشته هو شخصياً، ارتفعت يده في سرعة خرافية، لتمسك قبضة الضخم، قبل أن تلمس فكه.. وعلى الرغم من ضخامة ذلك الضخم وقوته الظاهرة، ارتطمت يده براحة "حاتم" التي لم تتحرك من مكانها، كما لو أنها حائط من الصلب، وشهق الضخم في ألم، واتسعت عيناه في شيء من الذعر، وهو يتراجع في حركة غريزية حادة، فصرخ فيه "هشام" في غضب: - ماذا أصابك؟! بدا صوت الضخم مهتزاً مضطرباً، وهو يقول: - ألم تر سيادتك ما حدث؟!.. صاح به "هشام": - لقد لكمته في رعونة. هتف الضخم، في صوت أكثر اضطراباً: - بل أقسم أنني لكمته بكل قوتي. انعقد حاجبا "هشام" في شدة، وحدّق في الضخم لحظة، ثم لم يلبث أن نقل تحديقه إلى "حاتم"، الذي بدا أكثر منه دهشة، وهو يقلّب راحته؛ ليحدّق فيها ذاهلاً، خاصة وأنه لم يشعر بقوة اللكمة بالفعل.. وفي غضب غلب دهشته، غادر "هشام" مكتبه، واتّجه في خطوات عصبية نحو "حاتم"، وهو يقول للضخم: - لو أنك نسيت كيف تلكم. ثم هوى بقبضته على فك "حاتم"، مردفاً في انفعال عنيف: - فدعني أذكّرك. وللمرة الثانية، ارتفعت قبضة "حاتم" في سرعة خرافية، وصدّ لكمة "هشام" في راحته.. وفي هذه المرة، كان هناك صوت.. صوت ارتطام قبضة ضابط أمن الدولة براحة المتهم.. بمنتهى العنف.. وبعد ذلك الصوت مباشرة، وثب "هشام" إلى الخلف.. وثب في حركة غريزية حادة، وقد اتسعت عيناه عن آخرهما، وبدا أشبه بالمذعور، وهو يمسك قبضته براحته الأخرى في ألم.. ومع تراجعه، وتلك الملامح التي ارتسمت على وجهه، تراجع الضخم أكثر.. وأكثر.. وفي كل خلجة من خلجاته، ارتسم رعب.. وفزع.. وذهول.. إنه لم يواجه، في حياته كلها، أمراً كهذا.. لقد اعتاد دوماً أنه الأقوى.. فهو ضخم الجثة، قويّ البنية، مفتول العضلات.. ثم إنه يحمل رتبة رقيب، وفي أمن الدولة.. وهذا دوماً يجعله أقوى من كل من يتمّ احتجازه هناك.. أقوى بحكم بنيته.. وبحكم سلطته.. وبحكم حماية الكبار له.. ولكنها أول مرة يشعر فيها بالخوف.. أول مرة يكون فيها المتهم أكثر قوة.. أول مرة، على الإطلاق.. أما "هشام" الذي لم تختلف مشاعره كثيراً؛ فقد غمغم في ذهول: - كيف تفعل هذا؟! حدّق "حاتم" لحظة في راحته، قبل أن يرفع عينيه إليه في حيرة حقيقية، قائلاً: - لست أدري!! رددًّ "هشام" ذاهلاً ومستنكراً: - لست تدري؟! كيف؟! عاد "حاتم" يحدّق في راحته، مغمغماً في حيرة أكبر: - حقيقة لست أدري!! حدّق فيه "هشام" عدة لحظات، في دهشة أكبر، ثم لم يلبث أن تراجع نحو مكتبه في حذر، وهو يقول: - هل فقدت الذاكرة؟! هزّ "حاتم" رأسه نفياً في بطء، وهو يجيب في صوت، لم تفارقه تلك الحيرة بعد: - على العكس.. إنني أحمل ذكريات لم أعشها بالفعل. عاد "هشام" يحدّق فيه، غير مستوعب لإجابته، ثم مد يده في حذر، يضغط زراً خفياً، في إطار مكتبه، وهو يغمغم: - في هذه الحالة.. فور نطقه للعبارة، اقتحم ثلاثة جنود، مدججين بالأسلحة المكان، وكل منهم صوّب مدفعه الآلي نحو "حاتم"، فصرخ فيهم "هشام"، بكل عصبية الدنيا وانفعالها: - اقضوا عليه. واتسعت عينا "حاتم ".. بمنتهى الشدة. يتبع