ارتفعت صفارات الإنذار عالية، في مدينة الأبحاث العلمية، وانتشر رجال الأمن في كل مكان منها، وفقا لخطة طوارئ، تدربوا عليها طويلا، في نفس الوقت الذي انطلق فيه اللواء فتحي جابر الحقيقي بسيارته، في طريقه إلى المكان، وهو يهتف بضابط أمن المدينة، في توتر صارم شديد: - أشعلوا كل نظم الأمان، وأغلقوا كل منافذ المبنى الرئيسي، ولا تنسَ تفعيل جدار النار الفائق؛ لحماية كل المعلومات، التي تحويها أجهزة الكمبيوتر، في المدينة كلها. أجابه ضابط أمن المبنى، وهو يشير لفريق من رجاله، بالالتفاف حول المبنى الرئيسي: - قمت بتفعيل كل هذا بالفعل يا سيادة اللواء، ولدينا فريقان من الحرس الخاص، داخل المبنى الرئيسي، يقومون بتفتيش كل ركن منه. هتف به اللواء فتحي في صرامة: - سأصل إليك خلال ثمان دقائق على الأكثر، وهليوكوبترات الأمن ستصل خلال دقيقة واحدة. وانعقد حاجباه في شدة، وهو يضيف في غضب، امتزج بصرامته: - لقد أخطأ مجرم القرن بوضع نفسه في هذا الفخ المحكم .. سنوقع به هذه المرة، بفضل غطرسته وغروره. لم يشعر الضابط بنفس الثقة، وهو يغمغم: - بالتأكيد يا سيادة اللواء .. بالتأكيد. قالها منهيا الاتصال، ثم تطلع إلى المبنى الرئيسي، مستطردا بعد زفرة حارة: - لو أنه منحنا الفرصة لهذا. في نفس اللحظة التي نطقها، كان رجاله داخل المبنى قد انقسموا إلى عدة فرق صغيرة، اتجهت كل فرقة منها إلى أحد اجزاء المبنى، مسلحة بأحدث المدافع الآلية، والسترات والخوذات المضادة للرصاص، وأجهزة البحث والرصد الحراري، بحثا عن أكرم صدقي عالمهم.. وفي عنف مدروس، اقتحمت إحدى الفرق معمل الدكتور راضي، كجزء من المبنى، وعلى الرغم من أن المعمل بدا خاليا من البشر في وضوح، إلا أن الفرقة، المكوَّنة من خمسة رجال، انتشرت في المكان، تفحص كل ركن، يمكن الاختفاء فيه، وبمنتهى الدقة، حتى أعلن كل منهم خلو المكان، فتوقف قائد الفرقة الصغيرة، وقال عبر جهاز اتصاله الخاص، وبلهجة عسكرية تقليدية: - المعمل ف خال ونظيف. آتاه صوت ضابط أمن المدينة، يقول في حزم: - اعمل على إغلاقه بالحواجز الأمنية؛ لضمان عدم اللجوء إليه فيما بعد، وقم بتشغيل نظام رصد دائم هناك؛ حتى يمكننا مراقبته من خارج المبنى. أجاب قائد الفرقة الصغيرة، بنفس اللهجة العسكرية: - علم وينفذ. أنهى الاتصال، وهو يرفع عينيه إلى رجاله الأربعة، قائلا في صرامة: - سننفذ خطة إغلاق هذا المعمل. ليس بعد... أتاه الصوت في لهجة ساخرة من أعلى، فرفع عينيه وسلاحه إلى سقف المعمل، حيث ممرات التهوية المركزية، و .. وانقض أكرم صدقي .. وبمنتهى العنف..
***
دوَّامة ألوان عجيبة، أحاطت بكل شيء.. دوَّامة تدور في سرعة كبيرة، تدور معها أعتى الرءوس.. ومع ذلك الطنين، الذي كاد يخترق خلايا المخ، بدا الأمر شاقا ومؤلما، إلى حد كبير.. - أغلق عينيك.. قالها المفتش رياض، وهو يغلق عينيه في قوة، قبل أن يضيف، في ألم ملحوظ: - هذا يجعل الأمر أقل عنفا.. أغلق أكرم عينيه في قوة أيضا، إلا أن ذلك الدوار، الذي أصابه، منذ بدأت رحلته مع رياض عبر الأبعاد، ظل يلازمه، مع ذلك الشعور العجيب بأنه يهوي من حالق، في بطء متواصل.. ثم دوّت فرقعة عجيبة.. ومع دويها، سقط جسده أرضا فجأة، ففتح عينيه، مغمغما: - ياله من هبوط سيئ! أدهشه أن وجد نفسه مع رياض، على سطح مبنى، تطلّ عليه نجوم السماء من أعلى، فاعتدل ممسكا برأسه في شيء من الإرهاق، وقال وهو يقاوم آثار ذلك الطنين المؤلم: - كنت أتصوَّر أننا سنصل إلى معمل علمي، أو قاعدة عسكرية مثلا. أمسك رياض رأسه، على نحو مماثل، وهو يغمغم: - لا تسلني عن التفاصيل العلمية، ولكن شقيقي أكَّد ضرورة الهبوط في مكان مفتوح؛ حتى لا تنحصر الطاقة في مكان محدود. استجمع أكرم قوته، ونهض واقفا، وأدار عينيه فيما حوله، وهو يقول: - إذن فهذه قاهرة عالمك. أومأ رياض برأسه، على الرغم من أن أكرم يوليه ظهره، وقال وهو ينهض بدوره: - إنها تشبه قاهرتك إلى حد كبير، ولكن مع بعض الاختلافات بالطبع. كانت عينا أكرم قد توقفتا عند نقطة بعينها، وهو يغمغم: - أرى اختلافا واضحا. استدار رياض إلى حيث يشير، وابتسم ابتسامة تمتزج بآلام رأسه، وهو يقول: - آه .. برج الثورة. انعقد حاجبا أكرم وهو يقول: - نطلق عليه في عالمي اسم برج القاهرة. أومأ رياض برأسه مرة أخرى، مغمغما: - أعلم هذا. ثم اعتدل مضيفا: - لقد بدأ لدينا كما بدأ لديكم، ولكننا قمنا بتطويره منذ خمسة أعوام، وارتفع لثلاثين مترا أخرى، وأضيفت إليه ثلاثة مطاعم مختلفة دوَّارة، وقاعة للأفراح والاحتفالات، وتمت تغطية الإضافة بالخلايا الشمسية، التي تضيئه ذاتيا ليلا كما ترى. هزَّ أكرم رأسه، وابتسم قائلا: - ربما أطرح هذه الفكرة، عندما أعود إلى عالمي. لم يكد يتم عبارته، حتى ارتفع رنين هاتف رياض المحمول، فالتقطه في سرعة، وهو يقول في حماس: - لقد أتيت به يا سيدي. آتاه صوت رئيسه، وهو يهتف: - في الوقت المناسب يا رياض، فنحن الآن في مواجهة عنيفة مع نظيره، مجرم القرن. انعقد حاجبا رياض في شدة، وهو يستمع إلى التفاصيل، ثم رفع عينيه إلى أكرم مع إنهاء المحادثة، وهو يقول في توتر: - يبدو أن المواجهة ستبدأ.. الآن. وعلى الرغم من اعتياده المواجهات، مهما كان عنفها، شعر أكرم في أعماقه بشعور عجيب، مع بدء مواجهته مع نفسه.. شعور لا يمكنه أن يصفه .. أبدا..
***
استفادة من المواجهة السابقة، راحت هليوكوبترات الأمن تحوم حول مدينة الأبحاث الالعلمية، دون الاقتراب منها، إلى درجة تسمح لأي كائن بالقفز إليها، مهما بلغت قوته أو جرأته.. وعبر أجهزتها المتطورة، راحت ترصد كل جزء ظاهر من المدينة، يمكن أن يختبئ عنده أي كائن حي في نفس اللحظة التي وصلت فيها سيارة اللواء فتحي جابر، والذي قفز منها، قبل حتى أن تتوقف بالكامل، وهو يهتف بضابط الأمن: - هل توصلتم إليه؟! أجابه ضابط الأمن في توتر: - ليس بعد.. الرجال منتشرون في المبنى، ولكنهم لم يجدوا له أدنى أثر، على الرغم من تفتيش وإغلاق معظم معامله. سأله اللواء في توتر: - وهل وضعوها كلها قيد المراقبة المستمرة؟! أومأ الضابط برأسه إيجابا، وهو يقول: - كلها تحت المراقبة يا سيادة اللواء. انعقد حاجبا اللواء مفكَّرا، وهو يتساءل: - ألا يمكن أن يكون قد غادره، قبل تفعيل إجراءات الأمن؟! هزَّ الضابط رأسه نفيا في قوة، وهو يقول: - مستحيل يا سيادة اللواء.. لقد قمنا بتفعيل إجراءات الأمن، بعد أقل من دقيقة واحدة، من دخوله المبنى. صاح فيه اللواء في غضب: - لم يكن ينبغي أن تسمح له بالدخول، ما دامت ليست هناك تعليمات مسبقة بهذا. ارتبك الضابط في شدة، وهو يقول: - لقد.. لقد كان أنت يا سيادة اللواء. صاح فيه اللواء، في غضب أكثر: - التعليمات هي التعليمات أيها الضابط. بدا الضابط شديد التوتر والارتباك، وهو يغمغم: - أنت على حق يا سيادة اللواء. شدَّ اللواء فتحي قامته، وانعقد حاجباه في صمت، بضع لحظات أخرى، قبل أن يقول في حزم: - إذن فهو بالداخل حتما، حتى ولو لم يعثر عليه رجالك! غمغم الضابط: - هذا ما يبدو يا سيادة اللواء. اومأ اللواء فتحي برأسه إيجابا مرتين، قبل أن يستعيد صرامته، قائلا: - في هذه الحالة، سننتقل إلى خطة الطوارئ القصوى رقم واحد. اعتدل الضابط بدوره، وقال في صوت مبحوح، من فرط الإثارة: - الغاز؟! أجابه اللواء بنفس الصرامة: - نعم.. سنخلي المبنى من رجالنا، ونغلق كل منافذه، ثم نطلق فيه أسطوانات الغاز المخدر ليوم كامل. صمت لحظة، ثم أضاف في صرامة أكثر: - لن يمكنه أن ينجو من هذا أبدا. غمغم الضابط في تردد: - أتعشم هذا يا سيادة اللواء. رماه اللواء بنظرة غاضبة، فاستدرك في سرعة: - أعني أن هذا أكيد يا سيادة اللواء. بدا اللواء شديد الغضب، وهو يواصل رميه بتلك النظرة الغاضبة، ثم شدَّ قامته أكثر، وهو يقول بلهجة آمرة: - مر بإخلاء المبنى. أصدر الضابط على الفور أوامره لكل الفرق، داخل المبنى الرئيسي، بإخلاء المبنى على الفور، في حين غمغم اللواء في صرامة: - سيقع مجرم القرن في أيدينا هذه المرة.. حتما. وفي هذه المرة، صمت الضابط تماما دون تعليق.. ففي أعماقه، ما زال الشك يتصاعد في سرعة.. وفي قوة.. شديدة..
***
أهذا جزء من إجراءات الأمن، المتبعة هنا؟ ألقى أكرم صدقي السؤال على رياض، وهما داخل واحدة من هليوكوبترات الأمن، تنقلهما إلى مدينة الأبحاث العلمية، فأومأ هذا الأخير برأسه إيجابا، وقال في انفعال: - ليس إجراء عاديا، ولكنه يستخدم فقط في محاولات الطوارئ القصوى. التقى حاجبا أكرم في تفكير عميق، قبل أن يقول فجأة: - اطلب منهم عدم إخلاء المبنى من رجالهم. التفت إليه رياض في دهشة، وهو يغمغم مستنكرا: - وكيف أطلب منهم هذا؟!.. إنه إجراء أمني رسمي، و.. قاطعه أكرم في حزم: - ولهذا ينبغي ألا يتبعوه.. دعهم يطلقون الغاز على الجميع. اتسعت عينا رياض، وهو يهتف: - على رجالنا أيضا؟! أجابه أكرم، قبل حتى أن يكمل عبارته المستنكرة: - هذا هو المقصود. فغر رياض فاه، دون أن ينبس ببنت شفة، وهو يحدق فيه ذاهلا، فصاح به أكرم: - كل ثانية تمضي، ستصنع فارقا كبيرا.. هيا.. اطلب منهم هذا فورا. ومرة أخرى لم يفهم رياض.. لم يفهم مطلقا.
***
يُتبع الحلقات السابقة: د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (1) د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (2) د. نبيل فاروق يكتب.. الهدف أنت (3)