لم أكن من ال"شفيقون" أو عاصري الليمون في الجولة الثانية من انتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة، إيمانا بأن كلا الفريقين لا يصلح لتحمل مسئولية حُكم مصر في تلك المرحلة العصيبة، إلا أن عجلة الزمن لو دارت للوراء لاخترت المدعو محمد مرسي بلا أدنى ذرة شك من التردد! ففي حال فوز الفريق شفيق، كان سيرث كل تلك الهموم والمشكلات، من أزمة أمن، وبنزين، وسولار، وكهرباء، ورغيف عيش، ونظافة، وتأمين صحي، بخلاف قضية "مذبحة بورسعيد" التي لا زلنا نعاني من نتائجها وتبعياتها، وعندها كنا سنصبح على موعد مع مباراة فلولية – إخوانية بين طرفين لا يهمهما سوى المصالح الشخصية على حساب شعب مصر. الطرف الفلولي كان سيتحجج -مثل الآن تماما- بأن الكل يعاديه وضده، وأن المعارضة -المتمثلة في الثوار والمتأسلمين- لا تريد التعاون معه في تحمل الواجب والمسئولية، وبالتالي فهو بريء من الفشل والخراب الذي يتحمله الآخرون بلا شك. والطرف الإسلامي الذي كان سيرتمي في أحضان الثوار والبسطاء، ويسوق نفسه كحل جذري، وأمل أخير أضاعه الشعب بعدم انتخابه، كان سيخرج إلينا مع كل أزمة وكارثة بتظاهراته وميكروفوناته وصراخه الحنجوري، منددا بظلم النظام وفساده، وعمالته وموالاته للأمريكان والصهاينة، طالبا من الشعب سرعة التحرك والاحتماء بالإسلام، تماما مثلما كان يحدث في عهد مبارك. والنتيجة.. سقوط الفريق شفيق بعد فترة قصرت أو طالت، لكنها كانت حتمية، ليصعد على الكرسي من بعده الإخوان المسلمين. وفي عهدهم كنا سنبدأ الكرّة من أول وجديد، ونحتاج إلى شهور إضافية من الفشل والصدمات حتى نصل إلى تلك الحقيقة التي باتت ناصعة البياض مبكرا دون الحاجة إلى ضياع كل هذا الوقت، أن كليهما وجهان لعملة واحدة. والآن.. وفي ظل كل هذه الأرواح التي تزهق، والدماء الذكية الطاهرة التي تسال، والخراب والخسائر المحدقة بنا من كل صوب وجانب، تشبثوا بالتفاؤل! فكل ما يحدث ليس سوى غربلة إلهية لكشف الحقائق أمام أعين شعب أغلبه من البسطاء والمساكين والأميين، وكان في حاجة إلى مِحن وابتلاءات تعتصره عصرا لتخرج أحلى ما فيه، تماما مثلما يفرز اعتصار الفواكه أحلى ما فيها، وتجعله من بعد العسر يصل إلى اليسر الإلهي الذي وعدنا به المولى جلّ وعلا في كتابه العزيز مرتين متتاليتين: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. باختصار.. مصر ليست في حاجة إلى معجزة حتى تُحل أزماتنا، وليست في حاجة إلى قنبلة حتى تقضي على معظم الشعب، حتى يقل العدد ونستطيع أن ننهض مثلما يردد البعض على المقاهي. مصر ليست في حاجة إلى انقلاب عسكري، وعودة الكاكي، والنسور، والنجوم، والبيادات، لنهتف ضدهم مجددا "يسقط يسقط حكم العسكر"، بعد أن جعلنا الحكم الإخواني غير الرشيد نعيد الهتاف القديم "الجيش والشعب إيد واحدة"، في عبث ما بعده عبث. مصر ليست في حاجة إلى مرددي الشعارات الدينية التي يستخدموها كعدة للنصب على شعب يحب الله ورسوله ويؤمن بكل الأنبياء، حتى وإن خلت ممارسات بعض أفراده من التدين. مصر في حاجة إلى كل ما يحدث الآن من خراب وتدهور.. نعم.. فكل هذا يصنع ما يشبه ب"الفلتر"، الذي يكشف الحقائق، ويفصح عن الوجوه الحقيقية المستترة خلف الأقنعة والأكاذيب والتلفيق. حتى يجيء ذلك اليوم الذي يظهر فيه الرجل النبيل، ذو المعدن الأصيل، والمحب الحقيقي لهذا البلد وشعبه، دون السعي خلف أي مصالح شخصية ومكاسب زائلة. إنه وجه جديد بخلاف كل الوجوه المحروقة الآن على الساحة، وسيظهر هذا الرجل في لحظة حسمها المولى عز وجل في السماء، وكتبها في اللوح المحفوظ، بل إنه موجود الآن، لكنه لا يعرف أنه سيكون الرئيس المنتظر، حيث يقف وسطنا بمطالب عادلة وأمنيات مشروعة، ويحلم مثلنا بمن يحققها ويستمع لها، لكنه لن يفصح عن نفسه أو يطالب بتنصيبه رئيسا وحاكما عادلا، بل نحن الذين سنكتشفه وسندفعه دفعا لتحمل المسئولية التي سينجح في تحملها إن شاء الله. فلم يخبرنا التاريخ يوما -سواء الإسلامي أو الحديث- عن قائد عظيم طالب بالجلوس فوق الكرسي، ولكن الظروف الصعبة كانت دائما هي المحك والاختبار الحقيقي الذي يفرز الرجال، ويكشف معادنهم، ويعيد انتخابهم لأدوار خلقوا من أجلها. فهلّا نظرتم إلى طريقة بيعة سيدنا أبو بكر الصديق وتنصيبه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر المسلمين؟ هل قرأتم كيف أصبح الفاروق عمر أميرا للمؤمنين؟ وكذا عمر بن عبد العزيز؟ أو حتى الماهاتما غاندي؟ أو نيلسون مانديلا؟ وهل قرأتم كيف تمدنت فرنسا بعد ثورة استمرت 10 سنوات فقدت فيها آلافا مؤلّفة من الرجال والنساء؟ وهل أدركتم كيف نهضت ألمانيا من هزيمتها في الحرب العالمية الثانية بعد تقسيمها كغنيمة للحلفاء، وموت 50 مليون جندي وضابط على مستوى العالم، قبل أن تستعيد الماكينة الألمانية قوتها، وتوحد شعبها مجددا، لتصبح اليوم على رأس دول العالم المتحضر؟ اقرأوا التاريخ الذي يعيد نفسه، ويتكرر في موجات ودوائر من أمة لأمة، ومن عصر لعصر، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلْهَا بَيْنَ النَّاسِ}، ثم الزموا العمل، والجهد، والتفاني، وما تمليه عليكم ضمائركم، واتركوا السماء تقول كلمتها في لحظة ستكون مفاجئة لنا جميعا، كنفس المفاجآت التي ساقها لنا التاريخ حين تحولنا من الملكية إلى الجمهورية في ليلة واحدة باتها الشعب وهو يسبح بحمد الملك، ثم استيقظ على بيان السادات الذي أعلن فيه خلع الملك فاروق. ونفس مفاجأة حرب السادس من أكتوبر حين بات الشعب حزينا ومصدقا أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، والرئيس الذي لن يحارب، ثم استيقظ على خبر العبور العظيم، وانتظروا اللحظة الفارقة، ورئيس مصر الجديد.. بحق وحقيقي!