لم أعرفه حقيقة، رأيته مثل الكثيرين في صوره وفيديوهاته على شبكة الإنترنت، وعندما رأيته لأول مرة منذ شهرين في الميدان لم أذهب لتصويره أو لألتقط صورة بجانبه، ولكني ابتسمت، وابتسم قلبي لحضوره، الذي بدا دافئا وبسيطا وعاديا، وليس كما يصوّره فيسبوك. يقول في أحد حواراته الصحفية إنه: محمد عطيان 60عاماً، من بلطيم بكفر الشيخ، أبي أيضا اسمه محمد ووُلد عام 1949، وآباء كثيرون رأيتهم ورآهم غيري في هذا ال"محمد" لذا لقبوه ب"أبو الثوار".. يقف بنظرته المحفزة ولافتته التي تحمل دوما رسالته إلينا في وسط الميدان أو إحدى جوانبه، يراعى الثوار كملاك حارس. واحدة من أهم مشاكل الأجيال الجديدة، والتي لم يدركها أصحاب القرار حتى الآن، هي "اليتم المبكر"؛ فنحن أجيال بلا آباء حقيقيين، أجيال "مالهاش كبير" كما يقولون، الآباء الذين وُلدوا في أوائل الخمسينيات، لتتفتح عيونهم على ثورة أو انقلاب عسكري أيا ما كانت طريقتهم في تسميته، لينضموا بعدها إلى جماعة محبي عبد الناصر أو كارهيه، يعلّقون صورته أو يشوهونها، هؤلاء الذين أخذتهم النكسة مراهقين يافعين لترميهم في حياة عسكرية دامت أكثر من 7 سنوات حتى انتهاء حرب 1973، عادوا من الحروب رجالاً صامتين باتفاق ضمني على الهروب. هناك من هرب إلى دول الخليج بحثا عن المادة، وهناك من هرب إلى أمريكا وكندا بحثا عن فرصة لحياة جديدة، وهناك من هرب في المخدرات، وهناك من هرب في التدين الأعمى والتزمت، وهناك من هرب في العمل والجري وراء لقمة العيش، وهناك من هرب في أحلامه ببطل مثل ناصر يقود التغيير... وفي وسط الزحمة والخيبات المتتالية، وُلدنا نحن في أواخر السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، فلم نجد آباء. فهم مشغولون بهمومهم التي ابتدعوها، دروس خصوصية بدأوا بإعطائها، حتى أدمنوا تعاطيها، وسلع استهلاكية تركوا من أجلها البساطة ورقة العيش، وتقاليد زائفة أحضروها معهم من بلاد أخرى... لا قصة قبل النوم، ولا صحبة إلى حديقة أو زيارة عائلية، لا قراءة في كتاب، ولا تربيتة على كتف، رأينا آباءنا في التحويلات البنكية، وفي الهمسات الليلية وراء الأبواب بعد أن نأوي لفراشنا، رأيناهم في الشجارات العائلية، وبقايا سجائرهم في المنفضة. كان يجب أن نثور عليهم يوما ما، نثور عليهم بسلمية؛ لأن هناك محبة لا نستطيع تخطيها، وعندما رأينا واحدا منهم في صفوفنا، يقول البعض إنه أبو واحد من أوائل شهداء الثورة، انجذبنا له، جلسنا معه، استمعنا وفهمنا، وغسلتنا شلالات الحزن في عينيه، أردنا أن نلومه على كل الأخطاء التي ارتكبها آباؤنا، ولكننا لم نستطِع، كانت محبتنا أكبر، شعرنا أنه هو الآخر ضحية مثلنا، وأن شبابه وأحلامه سُرقت منه مثلنا، وكفانا منه أنه يقف في صفنا، يرفع رسائله في وجه العالم، تبشيرا بنا، وإيمانا برسالتنا. ولكنهم قبضوا عليه، اقتادوه إلى السجن، لم تعد دعوات الإفراج تحمل فقط وجوه جيلنا الغضة البريئة، ولكنهم يهينون آخر رمز كان يربطنا بدولتهم "دولة العواجيز" يقطعون آخر خيوط المحبة، واحترام الكبير. انتهى الأمر.. لم نعد نحتاج عطفكم، ولن تجدوا منا بعد اليوم أي احترام.