هناك حكمة قرأتها منذ سنوات، وعلقت في ذهني بمعناها الملتفّ الذي لم أستوعبه وقتها، وظلت تتردد كثيراً في ذهني كلما تذكرتها طارحة وجوهاً كثيرة ومعاني محتملة أكثر. الحكمة هي: "إذا أردت أن تذهب لاصطياد الدببة فمن الأفضل ألا ترى أي دبّ"!! وهذه المقولات العبقرية يتوه مبدعها العبقري الأصلي تاركاً معناها الفذّ، كي نعجب بقريحته المحترقة من الإبداع لصياغة هذا المعنى في هذه الصورة وهذا العدد القليل من الكلمات. فالحكمة عن طبيعة إنسانية تتركز بقوة في مجتمعاتنا للأسف؛ فمعروف أن صائد الدببة لا بد أن يتمتع بصفات كثيرة من الشجاعة والجلد والقوة.. فهو يتعامل مع حيوان مفترس ذي قوة مذهلة قد يحيله لعجين قبل التهامه لو أخطأ أو خاف.. وصائد الدببة قبل التوجه لعمله يعلم جيداً أنه مقبل على مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة، وأنه لا مجال للدعابة هنا ولا للخطأ.. فلا مجال سوى للثبات، وأن يبرهن أنه رجل حقاً. والأهم أن من يذهب لصيد الدببة فهو لا يقارن بينه وبين الدب من حيث الحجم أو القوة، وإلا لفرّ فراراً من هول الفكرة قبل أن تكتمل داخل ذهنه! وهكذا على خلفية هذه الحقائق والمعلومات العلمية السابقة أجب عن التالي: 1- ما صفات صائد الدببة؟ وهل ترى فينا أي صفة من هذه الصفات؟ 2- هل شهدت لدينا صائد دببة من قبل؟ ولماذا انقرض وجودهم لدينا؟ حسناً لا داعي للحرج؛ فالإجابة هى بالطبع "لا".. "لا" للسؤال الأول، و"لا" للسؤال الثاني، و"لا" أخرى للسؤال الثالث حتى إن لم يوجد! بعيداً عن الحجة التي سيبادر بها البعض بأن الدب حيوان غير موجود في بيئاتنا، ولعل هذا هو ما لا يجعلنا نسعى لاصطياده.. فدائماً هناك الإمكانية أن تذهب لاصطياد التماسيح.. والتماسيح الحالية موجودة بكثرة فاقت عددها أيام العصر الفرعوني! كما أن هناك الضباع والحيتان، وهناك فصائل جديدة من الحيوانات المفترسة تظهر كل يوم، مما يعطينا مساحة لا بأس بها للتحرك مما يفنّد الحجة السابقة! فهذه الحكمة تنطبق علينا بشدة لعدة أسباب.. فالذاهبون لاصطياد الدب منا -إن وُجِدوا- نوعان: نوع يبدأ قبل الذهاب في المقارنة بينه وبين الدب ليدرك أنه يفوقه ببشاعة؛ قوة, ورهبة، ونظرياً مرآه كفيل بأن يرديه قتيلاً، ومن ثم يعدل عن الأمر قبل الذهاب. وطبّق الأمر على أمور عدة تحتاج لجلد وشجاعة وصبر، فنبدأ في التهوين من أمرنا، والإكبار من عظمة ما نحن مقبلون عليه، لذا نكتفي حينها بصيد السمك والأرانب؛ حيث إنها لا تحمل أي خطر ولا عبء! لكنها كذلك لا تحمل أي نصر. النوع الآخر هو الذي من أجله قيلت الحكمة، وهو النوع الغالب: من يرغب في أن يظهر بصورة الشجاع المقدام صائد الدببة الهمام، ولكنه يبذل كل ما في وسعه أثناء رحلة الصيد كي يختبئ ويتفادى أماكن تواجد الدببة، ثم يعود بعدها منهكاً ممزق الثياب، مدّعياً أنه حاول إيجاد أي دب لكنه لم يعثر على أي دُبّ! فالدببة هي السبب؛ لأنها هى التي اختفت! وهكذا يكون البطل الشجاع؛ لأن الهالة التي أثارها حول ذهابه غطت على أنه لم يصطد شيئا من الأساس! بينما هو في حقيقته رعديد عن امتياز وجدارة، اختبأ في كهف ما حتى نامت الدببة، أو قد يكون الطبيعة المصرية الصميمة هيمنت عليه، وقام برشوة الدببة للبقاء بعيداً عن الأنظار!! فليس الأمر مجرد تواكل وسلبية فقط؛ بل تطور في النفوس ليصبح رغبة في الظهور بمظهر الأبطال دون بذل أي جهد.. أبطال من ورق.. أبطال من نوع دون كيشوت.. بل وأبطال محتالون.. نُوهِم الجميع أننا سنذهب لاصطياد الدب، وتحمّل العواقب الخطيرة من أجله بينما كل ما في ذهننا هو البحث عن أفضل الأماكن الصالحة للاختباء. نردد طيلة الوقت أن الحال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في غاية الرداءة، وفي نفس الوقت لا نسعى لفعل أي شيء، سوى التبرم والشكوى دون أن نتحرك لأخذ الحقوق التي ننادي بها؛ نرغب في بلد ديمقراطي وحر، لكننا لا نرغب في تحمل الأعباء الكثيرة والجادة لتحقيق ذلك، كما فعلت وضحت الشعوب الكثيرة الأخرى، حتى حوّلت بلدها لبلد حر، وللصورة التي يريدونها له بكل إصرار وتضحية وتحمّل. نتيه فخراً وتأخذنا النشوة للنصر في كرة القدم ونعتبره غاية المطاف.. تماماً كمن يلبس الخروف المقيد رداء الدب ويفتخر باصطياده! في حين أن الجميع من حولنا سبقونا في اصطياد النمور والفهود، بل وصاروا يُروّضون ويلاعبون الديناصورات في حلبات السيرك! تطبيق مجتهد للآية الكريمة: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}، وحين يأتي النصر يتصارع الجميع لنسب الفضل لنفسه، رغم أنه يكاد يتثاءب لطول عهد البلادة، وهو يروي مغامراته الزائفة! وهكذا تجد كل مراسم الاحتفال بالذهاب لحملة الصيد موجودة دائماً وابداً.. تهليل وهتاف.. بينما الكل ينتظر الآخر أن يذهب هو للصيد! تندهش من كل الترتيبات الأبدية والضوضاء المثارة في حين أنه لا صيد تمّ، ومع ذلك تستمر التجهيزات، والحديث عن التجهيزات، لدرجة تُدهش الدبّ نفسه!! فهكذا ترى الحكمة حكيمة فعلاً! فالجميع صار يريد فروة الدبّ دون أن يتحمل عناء اصطياده!