قبيل حرب السادس من أكتوبر عام 1973، قرر رجال المخابرات العامة المصرية كجزء من خطة الخداع الاستراتيجي، العبث بمنطق العدو الإسرائيلي وخبرائه، لعمل كل الاستعدادات المطلوبة للحروب، دون أن يدرك العدو أنها كذلك.. أيامها كان السؤال الذي يشغل بال أجهزة المخابرات الإسرائيلية هو: هل تنوى مصر شن الحرب لاستعادة أرضها المحتلة، أم أنها ستكتفي بالمحاولات الدبلوماسية فحسب؟ السؤال لم يكن سهلا أو بسيطا، وجوابه كان شديد الأهمية والحساسية والخطورة.. وفي سبيل هذا نشر العدو جواسيسه، وراح يرصد كل ما يحدث في مصر، حتى يظفر بالجواب في الوقت المناسب، الذي يمنحه فرصة كافية لاستكمال استعداداته، أو شن حرب استباقية، كما فعل عام 1967م.. والاستعداد للحرب يشمل -ضمن ما يشمل- عدة أمور مهمة وحيوية، مثل حشد القوات على الجبهة، وإخلاء المستشفيات لاستقبال الجرحى والمصابين، وتأمين مخزون سلعي غذائي تحسبا لحالة حصار بحري محتمل، وتوفير مصادر بديلة، مع ظروف خفض الإضاءة في زمن الحرب، وأمور أخرى عديدة.. ولكن الحديث هنا حول إشكالية المنطق وعن كيفية خداعه، لذا فسنختار ثلاثة أمور كبرى، كان لا بد من إيجاد وسيلة للقيام بها، دون أن يرصدها العدو ويفهمها، ويدرك منها أننا نستعد فعليا لشن الحرب.. وإلا فسنخسر عامل المفاجأة، الذي هو الركيزة الأولى والأساسية لربح المواجهة الأولى، التي قد يتحدد على أساسها خط سير المعركة.. ومن هنا كانت فكرة اللجوء إلى خداع المنطق.. وللوصول إلى هذا، ابتكر الرجال وسيلة خداعية، لم تكن معروفة أو مستخدمة في ذلك الحين.. وسيلة أطلقوا عليها اسم "السرية العلنية".. ومع ما في اللفظ من تناقض عنيف بين السريّة والعلنية، نجحت خطة خداع المنطق.. والسؤال هو كيف؟! الإشكالية الأولى التي كانت تواجه الرجال، هي حتمية إيجاد مخزون سلعي قبل بدء الحرب.. ولكن تخزين السلع الأساسية، وعلى رأسها القمح، هو دلالة رئيسية على استعداد أي دولة لخوض حرب.. وعيون العدو ترصد.. والقمح لا يمكن الحصول عليه، دون أن تكشف كل العيون هذا.. ومن هنا كانت الخطة.. في نهايات عام 1972، فجّر صحفي شاب قضية بالغة الخطورة، عبر مقال أشار فيه إلى فساد القمح في الصوامع.. ومع المقال، كانت هناك صورة لحبوب قمح، بدأت تنبت بالفعل وسط الصوامع، مما يعني أن الرطوبة قد بلغت أطنان القمح، ولم يعد بذلك صالحا للاستخدام الآدمي.. ولما كان القمح هو الغذاء الرئيسي للدولة، باعتباره الخامة الأساسية للخبز، الذي لا غنى عنه على أي مائدة بسيطة أو فاخرة، فقد كانت فضيحة صوامع القمح فضيحة مدويّة، اهتز لها المجتمع المصري بشدة، جعلت الأقلام كلها تتناولها بالتحليل والتوضيح، على نحو انهالت معه سيول الاتهامات على المسئولين، مع المطالبات بعزلهم من مناصبهم، جرّاء ما ارتكبوه في حق الوطن.. ومع حالة الغضب الشعبي، صدر قرار بإعدام كل القمح الفاسد، والسعي في سرعة إلى استيراد قمح بديل.. ولم يكن العدو في حاجة إلى جواسيسه لرصد هذه الحالة، التي تناقلتها وكالات أنباء عالمية.. العدو رصد.. وسخر.. سخر من الإهمال المصري، الذي أدى إلى فساد عشرات الآلاف، من أطنان أهم مخزون سلعي لأي دولة.. وأمام أعين وعدسات الصحفيين تم حرق كل القمح الفاسد، ونشرت الصحف خبر حرق كل هذه الكميات، وخبر استيراد كميات بديلة بالفعل.. ووصلت أطنان القمح الجديدة، باعتبارها بديلا عن القمح الفاسد، الذي تم حرقه على نحو علني واضح.. رصد العدو.. وسخر.. ولكنه لم يفهم.. فوفقا للمنطق، كانت العلنية الكبيرة للأمر تعني أنه فضيحة كبرى في مصر، تثبت فشل المسئولين المصريين وإهمالهم.. وبينما كان الإسرائيليون يسخرون، كان الرجال في مصر يبتسمون في ظفر وارتياح.. فقصة القمح الفاسد، كانت من بدايتها إلى نهايتها خدعة.. وجزء من استغلال المنطق في الخداع.. فالقمح في الصوامع لم يكن فاسدا.. وحرقه لم يحدث فعليا.. فما تم حرقه أمام أعين الجميع وأمام عدسات التصوير، كان أطنانا من قش الأرز، مغطاة بطبقة سطحية من القمح.. أما مخزون القمح الحقيقي، فقد تم نقله إلى صوامع سرية في وادي النطرون، حتى يصبح مخزونا احتياطيا لزمن الحرب.. وهكذا رأى العدو.. ورصد.. وسخر.. ولكنه لم يفهم.. ولأنه اعتمد على المنطق، فقد انطلت عليه الخدعة.. لأن الخدعة اعتمدت أيضا على المنطق.. أو على خداع المنطق.. المشكلة الأخطر التي كانت تواجه الرجال في مصر، هي ضرورة إخلاء المستشفيات قبل بدء المعركة، حتى تصبح جاهزة لاستقبال الجرحى والمصابين فور اندلاع الحرب.. وإخلاء المستشفيات هو دلالة حاسمة على الاستعداد للحرب.. ثم أنّ إخلاء المستشفيات في أي بلد أمر يستحيل إخفاؤه.. وعيون العدو حتما سترصد.. ومحللوه حتما سيفهمون.. ومخابراته حتما ستدرك مغزى هذا.. وستستعد.. وهذا ما كان الرجال يسعون لتفاديه.. ولكن كيف؟! ومع دراسة الأمر بكل تفاصيله واحتمالاته، توصل الرجال إلى أنه، ما دام تحقق هذا في سرية أمر مستحيل، فلا بديل عن القيام باللعبة ذاتها.. السرية العلنية.. وخداع منطق العدو.. في تلك الأثناء كان الالتحاق بالقوات المسلحة عن طريق التجنيد، يعني بقاء المجند في الخدمة، حتى قيام الحرب.. ولم يكن أحد يدري، متى ستقوم الحرب.. ولكن كما يحدث في الدنيا كلها، كانت هناك استثناءات.. ومن بين تلك الاستثناءات، خرج طبيب مجند من الخدمة العسكرية، بسبب إصابته بمرض لا يسمح له بالاستمرار في الخدمة.. وكإجراء طبيعي، عاد الطبيب إلى عمله في مستشفى قصر العيني عقب خروجه من الخدمة.. ووفقا لتخصصه، عمل الطبيب في قسم الجراحة بالمستشفى.. ولأسبوعين، راح الطبيب يؤدي عمله في نشاط ملحوظ، ويعاود المرضى عقب إجراء جراحاتهم، دون كلل أو ملل.. ثم جاء ذلك اليوم، الذي طلب فيه الطبيب مقابلة رئيس القسم، ليبلغه شكوكه في إصابة أحد المرضى بميكروب "التيتانوس".. ولما كان وجود ميكروب "التيتانوس" أمرا بالغ الخطورة، في أقسام الجراحة بالذات، فقد انزعج رئيس القسم بشدة، واستنكر الأمر في حدة، باعتبار أن في هذا إساءة كبيرة لمستشفى عريق، مثل قصر العيني.. ومع إصرار الطبيب، قرر رئيس القسم أخذ عينات من المريض المشار إليه، وإرسالها إلى المعامل المركزية لوزارة الصحة لحسم الأمر.. وبالفعل تم أخذ العينات وتحريزها، وإرسالها للتحليل الرسمي، وفقا للقواعد المتبعة في هذا الشأن.. ولأن الأمر عاجل وبالغ الخطورة، فقد أتت النتائج بعد يوم واحد.. وكانت المفاجأة، و.. للحديث بقية..