معاذ رياض لنفرض أن سائقا كان يقود حافلة تحمل ركابا شيوخا وشبابا وأطفالا ونساءً، والسائق يسير برعونة في الطريق يحتك بالسيارات ويكاد يصدم المارة ويعرض حياة الراكبين للخطر مع كل انحناءة للطريق، هذا السائق لديه رخصة قيادة شرعية يعلّقها على الزجاج الأمامي للحافلة، متحديا بها من ينتقده، مطالبا إياه بتحسين قيادته أو التنحي تماما عن كرسي القيادة. لا نعرف على وجه اليقين إن كانت هذه الرخصة مزورة أو أنه حصل عليها بفساد ما، أو لعله اجتاز الامتحان حقا بالصدفة والحظ، ليست هذه هي المشكلة، العقل يقول إن هذا القائد يجب أن يتوقف ويترك المكان لمن هو أنسب منه خاصة أن الكوارث التي تسببها قيادته في ازدياد مستمر بينما يكتفي هو بتجاهل النقد أو الرد عليه بأن الحافلة في حالة سيئة والطرق صعبة والأحوال الجوية لا تساعد على القيادة السليمة. فإذا اتفقنا على هذا المثال وطبّقناه على الحالة السياسية الراهنة: رئيس لديه رؤية لا تجمع التيارات المختلفة في الوطن، لا مشروع نهضة واضحا عنده، وحين وعد ببرنامج واضح إلى حد ما مرّت أيامه دون أن يتحقق منه بند واحد، انهيارات مستمرة في جوانب كثيرة وانقسامات خطيرة في المجتمع، ثم يصر مؤيدوه على التعلق بشرعية الصندوق، وإن أدى ذلك إلى أن نخسر جميعا كل شيء. بعض المؤيدين وصل إلى مرحلة من عدم الرؤية إلى درجة أن يعتقد أن للسيد الرئيس إنجازات، وإذا تتبعت هذه الإنجازات لا تجدها أكثر من زيادة في السيولة عبر التسول من الإخوة وغير الإخوة، وهؤلاء إن أعطوا فبقدر محدود وبشروط تعيق النهضة ولا تفيدها، الإنجازات الأخرى المنسوبة للرئيس وحكومته هي أمور صغيرة كافتتاح مصنع هنا أو مشروع هناك، في مقابل إغلاق عشرات الأعمال الأخرى، وهروب رأس المال المصري والأجنبي إلى أماكن أخرى تفتح له ذراعيها وتعطيه الأمان الذي يحتاجه. وإن لم يجد هؤلاء المؤيدون ما يردون به الأرقام والبيانات التي تظهر لهم ما لا يريدون أن يروه، اتهموك بالعداوة للدين، وكأن الحكومة هي الإسلام والرئيس هو مندوب الرب، ولو فتحوا أعينهم لحظة لعرفوا أن من يريد القيادة السليمة لدولة ديانتها الرسمية الإسلام فهو لا يبغي إلا الخير للإسلام والمسلمين؛ فالقيادة الرديئة لمصر لا تفيد الإسلام في شيء، بل هي تتاجر به من أجل استمرارها، وإذا انكشف عنها غطاء المتاجرة بالدين لسقطت في لحظات. قد توافق أو تختلف مع فكرة الخلافة كجامعة للعرب والمسلمين، لكن انتقادك لعدم نجاح الرئيس لا يعني بالضرورة أنك ضد مشروع الخلافة، بل هو انتقاد لعدم قدرة فرد معين على تولي منصب معين ولا يجب أن يوضع في إطار الحرب على الخلافة أو على تحرير فلسطين أو غيرها من القضايا الكبرى؛ فالرئيس الناجح سيرفع من قيمة مصر التي هي قلب الخلافة وأساس أي مشروع قوي في المنطقة، أما الرئيس المتخبط الذي يضيع قطره، كيف سيثق فيه الإخوة العرب أو المسلمون في الأقطار الأخرى ويلتفون حوله؟ وأنى له أن يحرر القدس وهو ينهار اقتصاديا واجتماعيا ويسيطر بصعوبة على أرضه أصلا. لا خلاف أيضا مع "الجماعة" ومنهجها التربوي والدعوي فهذا شأنها، وإن كان من الأولى بها أن تنتظم في شكل قانوني مريح لباقي مكونات المجتمع، لكن هذا ليس موضوعنا، فلو كان الرئيس القادم منتميا للجماعة أو كان عضوا بها وتركها أو حتى متعاطفا معها دون أن يكون منها، كل هذه الحالات لا بأس بها بشرط أن يكون قادرا على أداء المهمة وجمع أشتات الوطن والإمساك بخيوط اللعبة وحل المشكلات الحقيقية واليومية التي تتفاقم بشكل لا ينكره إلا الأعمى. وقد يظن بعض الخائفين أن رحيل رئيس ما سيضيع البلد ويسقطها في حرب أهلية، وهذا مردود عليه بأن من قبله تنحى وكان لتنحيه نفع أكبر من ضرره، والتجربة والخطأ يمكن أن يتكررا حتى نجد من يصلح للقيادة وحتى نصل للصيغة المناسبة للحكم.. وهذه التجربة والتغيير المستمر هي خطوات على طريق الاصلاح ولا تسبب اهتزازا للوطن أو لاستقراره، بل هي خطوات في مسيرة الاستقرار بعكس التوقف عند خطوة غير ناجحة ورفض الحركة إلى الأمام؛ فالهدف ليس إسقاط رئيس كل بضعة أشهر من التيار المخالف له، بل الهدف هو إسقاط الرئيس الذي لا يصلح حتى نجد الأصلح منه، وتعديل الدستور إلى دستور أنسب منه مرة أو مرات إلى أن نقترب من الكمال الذي نعرف أنه لا يمكن إدراكه بطبيعة الحال. السؤال هنا هو كيف تتم عملية الحركة للأمام ومن يحكم مسيرتها؟ من يقرر الخطوات ومن يحدد متى نسير ومتى نتوقف؟ من يقول لنا إننا تحركنا بما يكفي ويجب أن نتوقف هنا ونعطي فرصة، أو أن هناك المزيد لم يتحقق ويجب أن تستمر الثورة؟ من يعلن لنا أن هذا الدستور مناسب وقريب من الكمال أو أنه لا يحقق شيئا ولا يمكن البناء عليه لنهضة فعلية؟ يجب أن يكون هناك شيء ما يفصل في هذه الخلافات التي أصبحت تهدد بشكل حقيقي أساس المجتمع وتمزقه بعنف وحشي لا هوادة فيه. السر هنا هو في الناس، فمن لديه القدرة على الاستماع لنبض الناس وقراءة الحال منهم يعرف الإجابة بوضوح، إن هذا الرئيس هو رئيس لمصر والدستور هو دستور مصر، فيجب أن نسمع لرأي مصر فيهما وهي التي تشير علينا أن نعطي فرصة أو أن نغير هنا أو هناك.. ومصر تتحدث من خلال الناس الذين يعيشون على أرضها فما يقولون هو قولها وما يرون هو رأيها.. يمكن لصندوق الانتخابات أن يكون أحد الوسائل لتسجيل صوت مصر، ولكن الاعتماد عليه كوسيلة وحيدة هو خطر كبير وسوء فهم لمعنى الديمقراطية واستغلال لها كسلم للوصول للمناصب دون رغبة حقيقية في الاستماع لصوت الناس.. والدليل على ذلك هو صمّ الآذان عن أي صوت آخر بعد أن قال الصندوق ما أريد له أن يقول. لا أحد يحب العنف وكلنا نريد أن ننبذه، ولكن ماذا يحدث عندما يغلق الحاكم المستبد الأبواب السلمية للتغيير؟ عندما يُخرس كل الأصوات التي لا تغني له؟ عندما يوقف عقارب الساعة عن التقدم للأمام ما دامت تشير إليه كي يبقى هو وليوقف الزمن.. لكن الزمن لا يتوقف والخطوات ماضية وإن عطّلها جاهل أو مستبد.. ليت الرئيس وجماعته ومن بيدهم القرار يبدأون بأنفسهم وينبذون أسباب العنف وينصتون لمصر وشعبها ويكونون قوة دافعة للأمام إما بالقيادة السليمة وإما بترك القيادة لمن هو أنسب بشكل سلمي متحضر، فيصبحون من التروس التي تدير عجلة الزمن للأمام حافظين دماء المصريين وكرامتهم من العبث البغيض.