رحم الله أجدادنا ولا حرمنا من حكمهم الغالية، فهي نبراس لنا في طرقنا المُظلمة الموحشة، كيف لا وقد أيقنت اليوم صدق ما قالوه من أن النصّاب لا يصبح نصّابا إلا إذا أوجدت له الحياة عشر ضحايا، فمهما بدا النصب واضحا للعيان إلا أن المتساقطين في شباكه كثر، ولم أرَ محتالا أو دجّالا عاطلا قط، إنهم في شغل إلى يوم يبعثون. والنصّاب نراه في الإعلام مذيعا، وفي المسجد شيخا، وفي السياسة يدير أمور الساسة والحكم، وفي الطب يتاجر بآلام الناس وأوجاعهم، إنه يدور مع المصلحة أينما دارت لا يعجزه شيء، وبنظرة تأمل في صفاتهم وجدت أن هناك ثمة مقومات هامة يحتاجها النصاب في مشواره، منها: أولا: يعمد دائما إلى استخدام العاطفة والحماسة أكثر من العقل والمنطق والتفكير الموضوعي، فيداعب الناس بالمناطق المقدّسة لديهم، سواء كانت دينية أو عرقية. ثانيا: لديه قاعدة معرفية لا بأس بها، وهذا عكس ما يظن البعض من أن النصّاب كاذب في كل ما يطرحه ويقوله، إنه يمتلك معلومات ومعارف بنسبة ما، عبقريته الحقيقية تتأتى من قدرته على خلط هذا القليل من الحقائق بالكثير من الأكاذيب، وإظهارها على أنها حقائق خالصة ودقيقة وثمينة. ثالثا: المحتال لديه بذخ في الوعود، كلماته تفتقر إلى الدقة ويملؤها الغموض، يريحك كثيرا حال الاستماع إليه أو الوقوع تحت تأثيره، لكنك لا تستطيع أن تمسك بيديك ثمة فائدة مرجوّة منه. رابعا: بجانب الغموض الذي يصنعه المحتال، فإنه كذلك يلجأ إلى تبسيط الحلول، إنه يتكئ على حقيقة بشرية، وهي أن معظم الناس يبحثون عن حلول سريعة وبسيطة لمشكلاتهم، فالمريض يريد من يخبره أن بعض الأعشاب قليلة التكلفة سريعة المفعول يمكنها علاجه، وأن الأطباء جشعون يريدون "مصّ" دمه لآخر قطرة، وأصحاب الأمراض النفسية يريدون من يؤكد لهم أن عليهم تكرار عبارة "أنا أجمل شخص في الكون" عشر مرات صباحا لمدة 21 يوما، كي يتحول وجه الحياة ويصبح جميلا مشرقا، والزوجة التعيسة تريد تعويذة من شيخ، والجماهير تريد رئيسا أو زعيما يلهب حماستهم بالخطب الرنانة ويخطب فيهم أنهم أعظم الشعوب وأفضلها، وهكذا. لا أحد يود أن يكون منطقيّا، إنهم جميعا يشتاقون إلى العلاج السهل، والنجاح السهل، والعيش السهل، وهذا ما يفعله المحتال جيدا ويتصرف على أثره، إنه لا يشرح للناس أن الحياة صعبة ومعقّدة، إنه يلجأ إلى الحلول السهلة السريعة ويخلطها بخبث شديد ببعض الحقائق الدينية أو الموروثات الشعبية التي تلقى ترحيبا من الجماهير. خامسا: المحتال يدرك جيدا أن المزاج الجماعي يمكن خداعه أكثر من المزاج الفردي، لذلك يميل إلى استخدام الجماهير كعامل إيجابي في تأكيد كذبه وأباطيله، فالناس عند التجمع يكونون أكثر قابلية لحديث المشاعر والعواطف، ويؤجلون المحاكمات العقلية أو يلغونها تماما، وتختفي أي نواقص أو عيوب في أفكار المحتال في غمرة حماس الجموع، بل يكون رد الفعل عنيفا تجاه من يحاول التشكيك فيما يقوله المحتال. سادسا: كما كان المحتالون قديما يلجأون إلى البخور كنوع من التأثير والمحافظة على وقوع الضحية تحت سحرهم، فإن المحتال اليوم يلجأ إلى التأثير البصري من خلال التكنولوجيا الحديثة والتي تعطي مسحة علمية لما يقوم به، كما أن البذخ والإبهار البصري يعمي الضحية عن رؤية أي ثقوب مهما كانت واضحة. سابعا: في وقت الهجوم عليه يلجأ المحتال إلى إشعار الجميع بأن الحرب ليست موجّهة ضِدّه شخصيّا وإنما ضد الأفكار والمعتقدات التي يحاول تقديمها للناس، هنا هو يجعل كل شخص آمن به أو صدّقه جزءا من حائط الصد الذي يحتمي خلفه، يصرخ في أتباعه أن حاربوا من أجل الخير والحق الذي أعطيتكم إياه، ثم يرتدي عباءة الشهيد موهِما الجميع أنه منتظر لمدد من الله والملائكة، يعود بنا هذا إلى تأكيد أن المحتال شخص قادر على الحشد والتجييش، وإذا لم تكن مواجهة المحتال قوية وفعّالة وحاسمة فإنه سيفلت كالزئبق من أي محاولة لمحاصرته. ثامنا: يحتاج المحتال في بعض الأوقات إلى استخدام التهديد والتخويف من أجل الحفاظ على هيبته؛ إنه يعلم جيدا أن البعض سيشكّك فيما يقول، إنه بتهديده هذا يعطي لأتباعه الإحساس بالأمان من خلال تأكيده لهم أن الخطر سيحل فقط على هؤلاء الذي لا يؤمنون بما يقول، والدجّال قد يهدد حسب مجال تخصصه أو حسب ما يرى أنه مؤثر في نفوس من حوله، فقد يهددهم بعذاب الله، أو الخسارة الفادحة، أو الحزن والقلق والاضطراب، أو المجهول، المهم لا بد من عقاب ما سيطال من يخالف القواعد والقوانين. وفوق كل هذا يظل سر الأسرار للنصّاب هو الاستعداد المسبق من قِبل الضحية على الانخداع، وهو ما عناه المفكر الأمريكي روبرت جرين بقوله: "يحقق النصاب سلطته العظمى ببساطة عن طريق فتح إمكانية إيمان الناس بما هم مستعدون للإيمان به أصلا؛ الناس عندما تؤمن لا تستطيع أن تحافظ على مسافة فاصلة، إنهم يتجمعون حول صانع الأعاجيب، يدخلون هالته الشخصية، ويسلمون أنفسهم للوهم بجدية صارمة ثقيلة. كالمواشي!". فلنعمل عقولنا يرحمكم الله.