أصعب من عضة الكلب! ذلك أنه تقريبا لا علاج له، فى حين أن عضة الكلب يمكن البرء من آثارها بعد 21 طعنة إبرة فى البطن. والتدين المنحرف الزائف هو الذى يجعل لأتفه الأشياء وأهونها أولوية على حساب الدين الحقيقى، وهو الذى يولى أكبر الأهمية للشكليات والمظهريات وسرد الحواديت المسلية لجمهور المستمعين، فى حين يغض الطرف عن أعظم الجهاد الذى هو قول كلمة الحق فى وجه السلطان الجائر. التدين المنحرف هو الذى يعلى من شأن الدجالين والنصابين والمشعوذين ومفسرى الأحلام، ويجعل كل هؤلاء بمثابة الصواريخ والكبسولات التى تحمل الإنسان العبيط إلى الجنة! تابعت فى الفترة الأخيرة عددا من برامج الشعوذة وتفسير الأحلام بالقنوات التليفزيونية فهالنى أن جمهور هذه البرامج شديد الضخامة، وأدهشنى تعلق الناس البسطاء بالسادة النصابين واتخاذهم نماذج تضىء لهم الطريق المعتم. ومن المؤسف أن الناس تتصور أن الاستماع إلى الهجاصين وتفسيراتهم لأحلام العوام هو من صحيح الدين، ويظنون أن الأخ الدجال هو عالم جليل لا ينطق عن الهوى، إنما يتحدث بما درسه وتعلمه من القرآن الكريم! والحقيقة أن مقدمى هذه البرامج لا يختلفون عن أى نصاب ممن يصادفهم الناس فى حياتهم اليومية.. النصاب يتصف عادة بالذكاء إذ ليس هناك نصاب غبى، وهو دائما لماح يلتقط الأشياء الصغيرة ويبنى عليها سيناريو النصب، وهو يعتمد طريقة الإيحاء للتأثير على الضحية. لهذا كله عندما أشاهد برنامجا تليفزيونيا يتلقى مكالمات المشاهدين لتفسير أحلامهم، وفى الاستوديو يجلس العالم العلامة والحبر الفهامة يمتشق المسبحة ويأخذ فى البسملة والحوقلة.. عندما أشاهد هذا أتطلع باهتمام وأستمع إلى المكالمات التى ترد لأهل المحطة التليفزيونية تستغيث بهم أن يفسروا الرؤى والأحلام التى شاهدوها بالليل فى منامهم.. يبدأ المتصل يروى حلمه وهو متهدج الأنفاس يتطلع لالتماس الطمأنينة عند رجل التليفزيون الداهية، فيتلقفه هذا ويجلسه على حجره ويهدهده ثم يأخذ فى مسح الريالة السائلة من فمه وأنفه ثم يبشره بأن القطة السوداء التى رآها فى المنام هى شر قد أبعده الله عنه.. حلاوتك يا مولانا.. ما هذه العظمة فى التفسير! فلما يقول السائل فى براءة إن القطة لم تبتعد بل ظلت تقترب فى الحلم.. يقول المفسر العتيد الذى لا تنضب جعبته: القطة السوداء هى الوسواس الذى داخل صدرك ولا بد أنك كنت تفكر فى شىء سيئ! وما الحل يا مولانا؟ الحل يا بنى هو أن تقوم فتتوضأ وتصلى ركعتين لله حتى تبتعد القطة السوداء وتخرج من صدرك! أما إذا كانت القطة التى صادفت المغفل فى الحلم بيضاء اللون فإن الدجال سيصور له الأمر على أنها فأل حسن، وأن خيرا كثيرا فى انتظاره. وسائل آخر يقول إنه شاهد لبنا حليبا فى المنام فيسأله الأخ النصاب: هل احتلمت بالليل؟ فيقول السائل: لست متأكدا إذا ما كانت الارتعاشة التى أحسست بها كانت بفعل الشبق أم بسبب تقلصات عضلة الفخذ بعد مباراة الكرة التى لعبتها بالنهار. - هل تلعب الكرة؟ - نعم يا مولانا. - الله الله.. الرياضة شىء عظيم يا ولدى.. والآن اتضح كل شىء، اللبن الذى رأيته هو مكافأة سيبعثها الله لك أنت وفريقك وستفوزون بالكأس بإذن الله! وبالطبع إذا خسر السائل الكأس هو وفريقه فإن المشعوذ النصاب لن يكون فى ورطة، لأنه يستطيع أن يقول للسائل عندما يتصل به من جديد إنّ ما رآه سابقا كان أضغاث أحلام، ولم يكن حلما حقيقيا، كما أن السائل لم يوثق صلته بالله هو وفريقه ولهذا خسروا الكأس! وهكذا لكل حلم مهما بلغت غرابته تفسير جاهز لدى صاحبنا القادر دوما على ابتكار تفسيرات ترضى العامة وتنتهى دائما بالدعوة إلى أداء ركعتين لله.. وهذه بالطبع دعوة لا يمكن أن ينكرها عاقل، وهكذا يحصن النصاب نفسه ضد الانتقاد ويحيط هجائصه التفسيرية بسياج من الآيات القرآنية ويخلط النصب بالدين من أجل أن يصعّب مهمة من يبغون بالناس خيرا ويريدون تحذيرهم من النصب والنصابين. ويلاحظ أن النصاب التليفزيونى هو فى العادة شخص ذكى طموح، لكنه رغم ذلك محدود المعارف وثقافته ضعيفة، ولا يتطلب الأمر منه أن يكون خطيبا مفوها أو شخصية كاريزمية، لكنه يعتمد بالأساس على خيبة الجمهور وحالة التدهور العقلى وضعف الإيمان الحقيقى بالله وما يترتب عليه من التماس العون من الأراذل والأوباش. وكذلك يعتمد النصاب على أن المتصل عندما يبدأ فى إدارة قرص الهاتف لينضم للبرنامج فإنه يكون فى أضعف حالاته ويكون على استعداد لأن يصدق ويؤمن بكل ما سيأتيه من هراء.. وهكذا فإن حالة الجمهور البائس لا تدفع النصاب حتى لتحسين أدواته استنادا إلى أن بضاعته الفاسدة لها زبائن فقدوا الحواس وغاب عنهم العقل وسلموا أنفسهم للأستاذ ليحقق من ورائهم الشهرة المدوية والثراء الفاحش والنفوذ الجبار. لكل هذا فإن التدين الزائف الذى يقدمه الحواة والمهرجون أصعب بكثير من عضة الكلب!