الدم أغلى شيء، والنفس أعزّ شيء، والمتاجرون بهما هم أرخص الناس وأخسّهم.. يوجع القلب منظر الجثث الممزقة لأطفال ذاقوا الموت قبل أن يتعرّفوا إلى الحياة، ولكن ما يزيد الوجع قسوة رؤية الضباع تتراقص على جثثهم، تنتزع منها نهشة هنا أو هناك، ترفعها بمخالبها إلى أعلى صائحة "من يزيدنا ثمنا؟!".. كان أولهم وصولا لمعركة انتزاع الغنيمة الدامية ذلك الذي صدّعنا بصياحه ونواحه "أين البرلمان؟".. نفس ما صاح به بالأمس وهو يرى جثث شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة تتناثر ممزقة محترقة.. بالنسبة لهذا الرجل فالبرلمان هو العلاج السحري للفساد والإهمال وتهديد الأمن القومي والعدوان الخارجي، ولو تركناه لحماسه لاقترحه علاجا لآلام الروماتيزم والبواسير!! وإني لأتساءل عن نفسية هذا الذي يرى مأساة كفقدان أكثر من ستين أسرة لأبنائها فلا يسارع بالتعزية أو طلب القصاص أو الترحم على الشهداء بل يكون أول حديثه عن البرلمان.. هذا سلوك أنا أفسره إما باختلال نفسي أو أخلاقي أو بالتعرض للاستحواذ من روح شريرة خبيثة من النوع الذي لا ينصرف إلا بالضرب! أنا لا أستطيع أن ألوم من يعترضون على حل البرلمان؛ فهذا حقهم في تكوين الرأي والدفاع عنه، لكني أؤمن أن لكل مقام مقال، وأن الإحساس نعمة، وأن من عنده دم أحسن ممن عنده دقن أو عنده برلمان! ثانيهم وصولا جاء مهرولا يقذف الإخوان بكل ما طالت يداه باعتبارهم أُسّ الفساد.. لديه ذلك التفسير العلمي لكل كارثة والذي يتلخص في "الإخوان".. اسأله عن ارتفاع الأسعار يقل لك "الإخوان"، استفسر عن رأيه في حالة الطقس يزمجر لك "الإخوان".. اطلب تعليقه على قانون نيوتن وسيكون رده "الإخوان".. عن قلة المخلل الذي يرسله المطعم المجاور مع الشطائر "الإخوان"! بالنسبة لهذا الرجل فإن "الإخوان" هو قانون يصلح لعلوم النفس والاقتصاد والطب والكيمياء والفيزياء والماوراء طبيعيات.. حسنا.. أنا لا أحب جماعة الإخوان في فترة ما بعد خلع مبارك، ولي تعليقات قاسية وآراء جارحة فيهم وفي مواقفهم، ولكني أؤمن بضرورة تطبيق قول الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.. أنا أبغض الظلم أكثر مما أبغض الإخوان.. صحيح أن الفصيل الذي ينتمي له هذا الرئيس أو ذاك -في أية دولة في العالم- يتحمّل جزءا من المسئولية الأدبية التي يتحملها الرئيس، لكن ليس إلى حد تحميله "الليلة" كلها.. وبالنسبة لمأساة أسيوط فإذا كان المحافظ إخوانيا -مثلا- فإن المسئولية التي تقع على فصيله هي مسئولية عدم ترشيح شخصية بالكفاءة الكافية لتولي المنصب ومهامه.. فقط.. أما المسئوليات المادية والمعنوية فيتحمّلها كل من الرئيس ورئيس الوزراء والمحافظ والوزير ورئيس الهيئة بصفاتهم الرسمية لا باعتبار انتمائهم السياسي... مع الأسف أصحاب هذا الاتجاه أسلوبهم الهستيري ينبئ أن غضبتهم للدماء البريئة لم تكن لتصبح بهذه الشراسة لو كان الرئيس ينتمي لتيارهم أو فصيلهم.. وثمة رائحة خبيثة أشمّها بين هجومهم هي رائحة الفرح.. أجل.. الفرح.. أحيانا حين أستمع لهم أو أقرأ ما يكتبون أشعر بأني أمام أناس فرحين بمصيبة دامية كحادث أسيوط فقط لأنه يسيء لرئيس إخواني.. بالطبع هذا الحادث يسيء لمرسي ويهوي به للحضيض، ولكن هناك فارق بين أن أكون معارضا لمرسي أو أن أتمنى مصيبة تطيح بعدد من الأرواح لتكون لي بمثابة قميص عثمان لأهاجم من خلالها من أعارض.. هذا النوع من المعارضين أنا لا أجد وصفا له سوى كلمة واحدة: "رخيص"! أما ثالث المهرولين لانتزاع قطعة عريضة من السبوبة، فمن يمكن اعتبارهم "فقرة الساحر" على مسرح المأساة؛ فهم الذي سارعوا كأنهم ما صدّقوا للمطالبة بإقالة الحكومة.. لماذا؟ ليتولاها المهندس خيرت الشاطر ويأتي بحكومة إخوانية بالكامل! يمكنني أن أتفهّم الشِقّ الأول بل وأطالب به، ولكن الشِق الآخر.. نعم؟ أفندم؟ نحن نتحدث عن رئيس حكومة جمهورية مصر العربية لا مدرب فريق النادي الأهلي! المضحك أن هؤلاء كانوا بالأمس يسخرون ممن يتهمون مرسي بأخونة الدولة وينفون هذا عنه كأنها تهمة، واليوم بعضهم كتبها صراحة "نعم لأخونة الدولة.. خلينا نعرف نشتغل ونصلحها".. بالمناسبة، أنا لا مشكلة عندي في أن يأتي الرئيس -أي رئيس- بحكومة كلها من فصيله السياسي -رغم ميلي للنظام الائتلافي- ولكن ثمة فارق بين أن تكون "حكومة الإخوان/ أخونة الحكومة" أو أن توصف الدولة بأنها "مؤخونة".. فأخونة الحكومة أو لبرلتها لا مشكلة عندي فيه من منطلق منح الفرص، ولكن أخونة الدولة أمر يختلف.. فالدولة مفهوم أوسع وأعم من الحكومة.. وسيطرة فصيل واحد على كل الدولة لا رد له عندي كمصري إلا الثورة! أنا لا أعرف مدى علاقة المهندس خيرت الشاطر أو جماعة الإخوان بتلك الدعاوى المستفزة، ولكن تزامنها وخروجها بهذا الانتظام والانتشار غير مطمئن، ويوحي بأمور غير محببة إلى النفس خاصة مع المعهود من شباب الإخوان على مواقع التواصل الاجتماعي.. يبقى لدينا النوع الرابع من المتكالبين على جثث القتلى.. وهم من يمكن أن نصفهم ب"تُجار الأحزان".. لا أنبل من حزن أب أو أم على أبنائهما.. فلا أحط وأخس من أن أرى من يتبادلون الردح المعنوي -عفوا للتعبير- باستخدام فيديوهات تصوّر أهالي ضحايا الحادث إما وهم يسبّون مرسي ونظامه أو وهم يمدحون الإخوان والنظام.. هناك ذلك الفيديو الشهير للطفلة المصابة ومذيع الجزيرة يكاد يُلِح عليها لتشتم المسئولين وهي تقول "أقول لهم يا كلاب".. وذلك الفيديو الآخر لوالد إحدى الضحايا وهو يقول "جربنا الليبرالية 30 سنة خلينا نجرب الإسلامية".. حسنا.. سواء من قام بنشر الفيديو الأول أو الآخر فكلاهما بلغ به انحطاط السلوك أن يدلل على صحة موقفه بكلمة أب مكلوم أو طفلة متألمة هو يعلم جيدا أن المشاهد البسيط سيتعاطف معهما.. منتهى الفقر الأخلاقي وانعدام الآدمية.. بين هذه النوعيات تكاد تضيع أصواتنا معشر المعارضين بعقلانية وموضوعية.. ما المشكلة في أن تكون المعارضة بطريقة النقاط.. واحد.. اثنان.. ثلاثة؟؟ يمكنك أن تقول كل ما يمكن أن يقال فيمن تعارض وأن تصفه بأعتى الصفات وأبشع النعوت، ولكن بشكل موضوعي وبالدليل والحُجّة والمنطق.. يمكنك كذلك إن كنت من "الموالاة" -وهي ليست سُبة بالمناسبة- أن تدافع بطريقة واحد.. اثنان.. ثلاثة.. وأن تُظهِر من تؤيده على أنه الحاكم العظيم القدير الذي لا غبار عليه، ولكن دون هستيريا وتسفيه للمعارضين له.. وكذلك دون اتهام لمن يعارض مرسي أو حكومته بأنه من "المتاجرين بالمأساة"، فثمة معطيات واضحة تجعلنا نفرّق بين المعارض الصادق وذلك المستغل للآلام والكوارث.. ومحاولة إظهار كل معارض أنه مُتاجِر هي لعبة رخيصة قديمة! مع الأسف فهذه نتيجة طبيعية لامتهان الإنسان حيا، من المتوقع إذن أن يُمتَهَن ويُتاجَر به ميتا، ولكن إذا جاء هذا ممن خرجوا يوما طلبا لحق الإنسان إما باسم الدين أو باسم الإنسانية أو باسم أية مبادئ نبيلة.. فكيف نتوقع ممن دونهم نضالا لأجل الإنسان المصري ونحن نرى بعض أهل النضال يزنون اللحم البشري بالكيلو ويصيحون "من يزيدنا ثمنا"؟!