في الفيلم الشهير Matrix وُضِع البطل أمام خيار من اثنين، أن يتناول حبة دواء تجعله يستمرّ في الحياة في عالم اصطناعي غير واقعي، أو أن يتناول حبة أخرى تجعله يفيق من الوهم المفتعل عمدا من الآلات المسيطرة على البشر وأن يرى العالم بحقيقته كما هو.. وعندما حسم أمره وقرّر أن يتناول حبة "الحقيقة" كان أول ما استُقبِلَ به هو "مرحبا بك في العالم الحقيقي". ليته كان من الممكن أن نوجد في الواقع قرصا يتناوله المرء فينقشع الوهم عن ذهنه ويرى الأمور كما هي، إذن لأفاقت النخبة السياسية من رؤيتها الضيقة للمجتمع المصري وهمومه ومشكلاته ولرأت مصر الحقيقة.. منذ يومين كنت أستمع لصديق وأخ عزيز ناشط سياسي مخضرم وهو يقول لي بمرارة واصفا تلك النخبة المذكورة بقوله: "ليس بينهم مَن يهمّه حقا أمر الوطن والشعب.. كلهم يبحثون عن مصالحهم الشخصية والمصالح الخاصة لفصائلهم وأحزابهم، ولا أحد يحسّ بالمواطن الفقير المسحوق همّا". وعندما حاولتُ أن أصف له حكمه بالقسوة المفرطة والتطرف انطلق يحدّثني عن الذي رآه في "مصر الحقيقية" من خلال مشاركته في العمل الخيري، وتغلغله في أعمق أعماق الأوساط المطحونة. حدّثني عن الفتاة التي يتوقّف زواجها على بضع مئات من الجنيهات تشتري بها طاقم ملاءات للسرير وقميص نوم أو اثنين.. عن السيدة التي تقدّمت لإحدى الجهات الخيرية لطلب قرض حسن بلا فوائد، ولكن مشكلتها أن الحد الأدنى للقرض هو ألف جنيه تردها بقسط شهري عشرين جنيها هي لا تملكها، وهو ما يجعلها تستسمح إدارة الجهة أن تجعل قرضها لا يزيد على ثلاثمائة جنيه.. عن الرجل الذي اشترى بالكاد علاجا لابنه ثم اتصل به بعد منتصف الليل مستغيثا؛ لأن الجنيهات القليلة في جيبه نفدت حتى لم يعد يملك ثمن "سرنجة" يعطي بها ابنه الدواء.. عن الرجل الذي يعاني صغيره مرضا عضالا في العظام ويشتري له علاجا أسبوعا بأكثر من ألف وخمسمائة جنيه، وهو ما اضطر الرجل لبيع كل ما في بيته حتى إنهم حين زاروه وجدوه وأهله يفترشون الجرائد؛ لخلوّ المنزل من كرسي أو سرير، بل وبرّر لهم احتفاظه بالثلاجة بأنه يحتاجها لحفظ الدواء من التلف. حدّثني صديقي عن الرجل السلفي الطيب المسالم الذي جنّ جنونه حين بلغ مسامعه خبر قرار غلق المحالّ في العاشرة مساءً حتى أقسم إنه سيقتل أول موظف يطلب منه غلق محله على باب هذا المحل.. حدّثني عن الرجل الذي انهال سبّا ولعنا فيمن يتحدّثون عن أخونة الدولة أو لبرلتها أو علمنتها إلى درجة قوله بحرارة: "إن شا الله حتى تتصهين.. بس نلاقي ناكل".. حدّثني عن رجل لديه "كوم لحم" لا يستطيع إلا أن يطعم واحدا فقط منهم كل يوم. هذا هو العالم الحقيقي الذي ينساه الجميع.. لا أنكر أهمية مناقشة أمور كالدستور ونظام الحكم والهوية والمرجعيات... إلخ، ولكن على ألا ننسى واقع أن كل لحظة تمر علينا في هذه المناقشات يموت فيها مواطن لعجزه عن العلاج، وينحرف فيها آخر لإغلاق باب الحلال في وجهه، ويولد فيها طفل لا يستطيع أبوه أن يفرح به من فرط همّه بسؤال نفسه "كيف سأطعمه.. فقط؟". لا أقول إن علينا أن نهمل الموضوعات سالفة الذكر، ولكن كيف لكل منا أن يطمع في دور في حكم هذا البلد وإدارة شئونه بغير أن يملك أدنى قدر من إدراك فكرة الأولويات وترتيبها، وأن يتمتّع بالحد الأدنى -على الأقل- من الإحساس بما يهمّ الناس فعلا؟ المشكلة أن أي محاولة للفت نظر هذه النخبة إلى أن الشعب الذي يتحدّثون عن سعيهم لمصلحته يتناقص ويتهالك ويذوي جوعا ومرضا وذُلا تُقابَل باتهام بالسطحية والسعي لجعل المصري يعيش كالثور في الساقية لا يُفكّر إلا في احتياجاته الجسدية.. هؤلاء المتحمّسون ل"الارتقاء" باهتمامات الإنسان المصري ينسون أن عليهم أولا أن يضمنوا استمرار إنسانية هذا الذي يريدون الارتقاء به.. ثمة مثل يقول "اللي ما يشوفش من الغربال يبقى أعمى"، ومع الأسف فنخبتنا عمياء؛ لأنها لا ترى حقيقة بسيطة أن الذي يحمل همّ كيفية توفير الوجبة القادمة فحسب لأبنائه لا مكان عنده ليحمل همّ "أخونة الدولة أو لبرلتها"، وأن الذي لا يجد ثوبا رخيصا يكسو به ابنته لن يخاف أن يقوم السلفيون بتنقيبها عنوة، وأن المشغول بقراءة قائمة ديونه للبقال وصاحب البيت وبائع الخضر لن تجد له بالا لقراءة هذه المادة أو تلك من الدستور.. بالطبع يوجد من يحاولون الجمع بين التعايش مع همومهم وهموم السياسة بمتابعة تلك الأخيرة من حين لآخر، ولكن هذا لا يعدو شهقة وثانيتين من لمحة سريعة للسطح قبل الغطس مرة أخرى في بحر الأعباء الحياتية.. بالطبع يوجد ذلك الذي يريد رغم انسحاقه تحت الفقر والمرض وإهانة الآدمية أن يُشارك في حمل هموم الوطن التي تحدّثه عنها النخبة بحرارة ولوعة، وكأنما هذا الغلبان ليس من هموم هذا الوطن. حقا كما يقول البسطاء: الإحساس نعمة!