كل عظماء التاريخ ومشاهيره، سواء العلماء والمفكرين والقادة، بل والأنبياء والرسل أيضا، يشتركون في تفصيلة درامية مكررة من قصة إلى قصة، ومن شخص إلى شخص، وهي أن البطل قرر الاستمرار في المضي قدما نحو حلمه بلا تراجع أو استسلام، حتى وإن كانت كل الظروف والمؤشرات تشير إلى استحالته. وفي كل القصص الإنسانية انطبقت تلك المقولة الشهيرة للسياسي البارز والزعيم الروحي للهند الماهاتما غاندي، حين قال: "في البدء يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر". والآن قل لي من فضلك، هل تتابع أخبار السياسة الكئيبة، وأحوال البلد المتدهورة، من باب المتابعة والاهتمام ببلدك، أم لإعطاء نفسك الحجة والمبرر للصراخ والعويل والندب على ما وصلنا إليه، حتى لا تخرج فى الحر والزحام والجحيم المروري بحثا عن حلمك التائه فى الطرقات، في الوقت الذي استطاع فيه آخرون أن يصلوا إلى غايتهم في ظروف أصعب ألف مرة مما أنت فيه؟ فمهما كانت ظروفك "اللي زي الطين"، هل تصورت نفسك أصم وأبكم وأعمى في وقتٍ واحد، لترى نفسك -ولو من باب الخيال- تعيش طوال العمر معتمدا فقط على حاستي اللمس والتذوق؟ فعلتْها من قبل الأسطورة هيلين كيلر، التي فقدت أغلى 3 حواس في حياتنا وعمرها 19 شهرا فقط، قبل أن تتعلم القراءة والكتابة باللمس على كفها، فاستطاعت القراءة من خلالها، ليس فقط باللغة الإنجليزية ولكن أيضا بالألمانية واللاتينية والفرنسية واليونانية. وعرفت هيلين بقصة الفتاة النرويجية راجنهيلد كاتا التي كانت هي أيضا صماء وبكماء، لكنها تعلمت الكلام، فكانت القصة مصدر إلهام لها، لتطلب هيلين من معلمتها تعليمها الكلام، لتبدأ معها المُدرّسة بالفعل رحلة طويلة لتشرح لها باللمس كيفية النطق ومعاني الكلام وطريقة نطقه، عن طريق لمس شفاه الآخرين وحناجرهم عند الحديث وطباعة الحرف على كفها. لتنتقل هيلين بعدها إلى مرحلة جديدة مع معلمة مختلفة لجأت إلى وضع يد هيلين على فمها (فم المعلمة) أثناء حديثها لتحس الطفلة طريقة تأليف الكلمات باللسان والشفتين، وانقضت فترة طويلة قبل أن يصبح باستطاعة أحد أن يفهم الأصوات التي كانت هيلين تصدرها. ولما لم يكن الصوت مفهوما للجميع في البداية، بدأت هيلين صراعها من أجل تحسين النطق واللفظ، وأخذت تجهد نفسها بإعادة الكلمات والجمل طوال ساعات مستخدمة أصابعها لالتقاط اهتزازات حنجرة المعلمة وحركة لسانها وشفتيها وتعابير وجهها أثناء الحديث لتحسين لفظها، وبالفعل ازداد صوتها وضوحا عاما بعد عام، فيما يعد من أعظم الإنجازات الفردية في تاريخ تربية وتأهيل المُعاقين، لتتقن هيلين بعدها الكتابة بخط جميل مرتب. ولم تكتفِ الطفلة بالمعجزة بهذا القدر، فإذا بها تقرر الالتحاق بمعهد كامبريدج للفتيات، قبل أن تحصل على بكالوريوس العلوم والفلسفة وهي في سن الرابعة والعشرين، ثم تبدأ في كتابة المقالات بالصحف والمجلات، وفي أوقات فراغها كانت هيلين تخيط وتطرز وتقرأ كثيرا، كما تعلمت السباحة والغوص وقيادة العربة ذات الحصانين، ثم قفزت قفزة هائلة بحصولها على شهادة الدكتوراه في العلوم، والدكتوراه في الفلسفة. والآن.. هل تعتقد أن قصة هيلين كيلر مجرد استثناء؟ فلتتخيل نفسك إذن وقد ولدت بدون ذراعين ولا رجلين، لتعيش مجرد رأس وبطن فقط. فعلها الأسطورة الأسترالي الشاب نيكولاس فوجيسيك الذي حاول الانتحار وهو في سن الثامنة، بسبب معايرة الأطفال له وإحساسه بالعجز التام، لكن والديه أخبراه أن الحياة اختياران إما المحاولة.. وإما اليأس والفشل. ليعيد الطفل العاجز (الذي ولد بلا يدين أو قدمين) النظر في حياته، ويفكر بعمق في أن هذا قدر قد كُتب له، وأن الأمر ليس بيده ولا بيد والديه أو أي أحد في العالم من البشر، لا سيما أن الأطباء حاولوا تركيب أطراف صناعية له في صغره، لكن ثقل وزنه الذي كان 24 كيلوجراما لم تتمكن الأطراف من تحمله. عندها قرر نيكولاس البدء بحياة أفضل، وترك كل ما سيقال عنه خلف ظهره، غير عابئ بتوبيخ بعض الأطفال بكلام ينتقص من حقه، ولم تزده تلك الألفاظ إلا ابتسامة واستمتاعا بإعاقته، مستمرا في تعليمه حتى أتقن القراءة والكتابة على الحاسوب، بالإضافة إلى السباحة، وركوب الخيل، وكرة القدم وغيرها. ورغم أن الحكومة الأسترالية لم تسمح للأطفال المعاقين بالذهاب إلى المدارس العادية إلا بعد دفع مساعدات مالية لم يستطع والديه الفقيرين سدادها، لكنهما قررا أن يتحملا قسوة الظروف لإيجاد مصاريف مدرس خاص لابنهما، بهدف استكمال تعليمه. ولم ينهِ نيكولاس هذه المرحلة حتى واجهته وأهله مصاريف الجامعة الباهظة، فلم يفقد والديه الأمل في البحث عن داعم له، وبعد مرارة بحث تكفّلت إحدى الشركات الخاصة بمساعدة نيكولاس لاستكمال تعليمه، ليملك اليوم ثلاث شهادات في مجال الاقتصاد وإدارة الأعمال، كما أصبح رئيسا لشركتين من أكبر الشركات المهتمة بمجال الاقتصاد في أستراليا. فلماذا تلُم دائما حظك العاثر بوجودك في بلد فقير، لا يجد فيه الفرد أدنى حقوقه الإنسانية، من تعليم متطور، وصحة، وغذاء، دون أن تنتبه أن حتى الدول المتقدمة ليست دائما بالصورة المثلى مع كل مواطنيها، وأن هناك مواطنين فيها ولدوا بظروف وعاهات تجعلهم يحسدونك على ما أنت فيه من نِعم وإمكانات، غير أنهم تمردوا وتحدوا وواصلوا المشوار حتى نجحوا وتفوقوا عليك؟! فلا تتحجج بحال البلد.. ولو كنت لا تؤمن بمرسي وترى في شفيق طوق النجاة فكن أنت شفيق عالمك واصنع دولة نجاحك بيديك، ولو كنت كافرا بشفيق وتؤمن بمرسي فلا تكتفِ بالدفاع عنه على الإنترنت وافعل شيئا على أرض الواقع، وفي كلا الحالتين عليك أن تفعل. حتى وإن كنت غير مقتنع بكليهما فكن أنت رئيس جمهورية نفسك، وافعل فيها ما لم يفعله الآخرون، وتذكّر دائما مقولة المهاتما غاندي: "كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم"، فإذا نهضت بدولة النفس وصنعت فيها قوانينك الخاصة ونجاحاتك الشخصية، ستمتد حدود دولتك الناجحة إلى أهلك، وجيرانك، وأصحابك، حتى تعم على بلدك الأكبر مصر.