بدأ عامي الأخير في المرحلة الثانوية مع بداية رمضان عام 1973.. كانت قوانين تخفيف الإضاءة المتبعة منذ نكسة 1967 قد تمّ تخفيفها على نحو يوحي بأن النظام قد قنع بحالة لا سلم ولا حرب؛ مما لا يجعل ضرورة قصوى لتخفيف الإضاءة.. وعاد الناس يعلقون زينة رمضان والمصابيح الملونة على نحو محدود.. ولما كنا قد تسلمنا منذ أيام كتبنا الدراسية.. فقد قرّرنا تأجيل دورة الشطرنج الرمضانية المعتادة إلى منتصف الشهر الكريم؛ بعد أن تكون قد استعدينا جيدا لعامنا الأخير في الثانوية العامة.. وفي العاشر من رمضان وقبل أن نبدأ ليالينا جاء الحدث الأعظم في تاريخنا.. اندلعت حرب استعادة "سيناء". كان كل شيء من حولنا يوحي باستحالة حدوث هذا في ذلك التوقيت.. كنا قد تابعنا مشكلة القمح الفاسد في الصوامع..
ومشكلة انتشار ميكروب التيتانوس في المستشفيات.. وقرأنا الإعلان الذي فتح باب الحجز لضباط وجنود القوات المسلحة لأداء عمرة رمضان، وكان الرئيس السادات يبدو لاهيا لا مباليا.. كل شيء كان يستبعد قيام الحرب عن قريب بأي حال من الأحوال.. حتى خطب الرئيس السادات خلت تماما من أي حديث عن الحرب.. ثم فجأة نشب القتال على الجبهة وعبرت قواتنا.. وحطمت خط بارليف الذي قالت صحفنا نفسها إنه من المستحيل تحطيمه.. وارتفع العلم المصري على الضفة الشرقية لقناة السويس.. ومع الفرصة العارمة التي لم تشمل مصر وحدها، وإنما العالم العربي كله؛ ألقينا جميعا كل استعدادات دورة الشطرنج الرمضانية.. ففي الأسبوع الأول كنا نقضي معظم ليالي رمضان أمام شاشة التليفزيون مستمتعين بمشاهدة طوابير الأسرى الإسرائيليين..
ودباباتنا وهي تعبر فوق المعابر التي أعدّها سلاح المهندسين إلى الضفة الشرقية للقناة، وكانت تلك أمتع ليالي رمضانية قضيتها في حياتي.. كانت ليالي بطعم الفرحة.. والانتصار.. والفخر.. ثم مع بداية الأسبوع التالي اجتمعت مجموعتنا لندرس ما الذي ينبغي أن نقوم به في مثل هذه الظروف.. وفي الصباح التالي تطوعنا في فرق الدفاع المدني، وبدأنا تدريباتنا، وعلى الرغم من مشاق التدريب؛ كنا نشعر بسعادة ما بعدها سعادة.. وكم تمنينا أيامها أن نلتحق بالقوات المسلحة لنخوض القتال على الجبهة جنبا إلى جنب مع جنودنا البواسل.. أيامها كل شيء حولنا كان يلهبنا بالحماس.. فرحة الشعب.. طوابير التبرع بالدم.. البيانات العسكرية.. صور الأسرى.. وحتى الأغنيات الوطنية.. كانت فترة لم تشهد مصر مثلها قط فترة أعظم من كل ما حلمنا به.. وعلى عكس أيام 1967 كان الشعب يثق في قياداته والبيانات العسكرية ثقة لا حدود لها، ويرفض التشكيك في حرف واحد منها. كان الشعب كله بالفعل يد واحدة لم تكن هناك حالات سرقة.. ولا اعتداء.. ولا بلطجة بل لم يكن هناك بلطجية من الأساس.. حتى عندما حدثت ثغرة "الدفرسوار" لم يحدّ هذا من حماس الشعب أو ثقته في النصر، وحتى مع حصار السويس.. وعندما أعلنت الهدنة يوم 24 أكتوبر خرج الرئيس السادات يؤكّد للشعب أن الهدنة لا تعني نهاية الحرب.. ونصحهم بأن يبقى سلاحهم صاحيا.. وبعد ساعات فحسب كان الفنان الراحل عبد الحليم حافظ يطلق العبارة نفسها في أغنية رائعة.. "خلى السلاح صاحي".. المؤلفون والمطربون والعازفون أيامها كانوا مع المهندسين الإذاعيين جبهة وطنية فنية في مبنى الإذاعة والتليفزيون.. لم يكن أحدهم يغادر إطلاقا خلال أيام الحرب.. كان الكل باقيا في الاستوديوهات لتأليف وعزف وغناء الأغنيات الوطنية؛ لبث الحماس في نفوس الشعب وجيشه. كل إنسان على أرض مصر يبحث عن دور يؤديه؛ من أجل وطنه الذي يخوض حربا طال انتظارها لست سنوات كاملة.. البعض تطوع في الدفاع المدني.. والبعض الآخر في وحدات الإسعاف.. والبعض الثالث وقف في طوابير للتبرع بالدم.. وكانت أروع ليالي رمضانية شهرتها مصر.. ليالٍ جمعت شعبها كله في بوتقة واحدة اسمها "الوطني".. وانتصرنا.. وعلى شاشات التليفزيون شاهدنا بكل الحماس الرئيس أنور السادات وهو يعلن النصر في مجلس الشعب.. شاهدناه وهو يمنح الأوسمة والنياشين والرتب للقادة العسكريين الذين حققوا لنا أول انتصار حقيقي على الجيش الإسرائيلي.. وكانت المرة الثانية التي نرى فيها حسني مبارك على الشاشة..
المرة الأولى كانت في مشهد واحد في فيلم الله معنا والذي لعب فيه دور قائد الطيران.. شاهدناه وسمعنا حديث السادات عن كيفية تخطيطه وإعداده للضربة الجوية التي مهدت للعبور مهما كان غضب البعض من حسني مبارك الآن، فالتاريخ سيذكر أن ضربته الجوية كانت عبقرية بحق.. والتاريخ لا يغضب ولا يجامل ولا ينفصل.. التاريخ يذكر الحقائق فحسب.. وفي لحظة كتابتي لهذه السطور أستعيد تلك الذكريات التي مضي عليها ما يزيد على ثلاث عقود، وأحاول أن أقارن بينها وبين ليالي رمضان الآن.. الليالي التي سرقتها منا شاشات الفضائيات ومسلسلاتها وبرامجها.. الليالي التي ازدحمت بكل ما لا يمتّ بصلة بشهر رمضان، وصارت على الرغم من هذا سمة مميزة له..
أحاول أن أقارن وأشعر بالحنين.. أقارن بين ليالي رمضان القديمة البسيطة.. وبين ليالي رمضان الحديثة المفرطة في كل شيء.. مفرطة في شاشات لا حصر لها.. تعرض عددا هائلا من المسلسلات.. وتعرض برامج للمقالب لست أدري ما الصلة بينها وبين الشهر الكريم.. مفرطة في بهرجتها.. في أفرادها. وحتى في تعامل الدين الخفيف.. أقارن بين هذا وذاك وأشعر بالحنين لأيامي السابقة وليالي رمضان القديمة.. ولكن وكما قالت لي صديقة حكيمة معتدلة التفكير في هذا الزمن إنه في الأعقد أن تكون بسيطا.. وكم كانت على حق.. لقد صار في الأكثر تعقيدا الآن أن تكون بسيطا في رمضان.. وليالي رمضان..