أكثر ما يلفت الانتباه في الأيام الخمسة الأولي لشهر رمضان المبارك هذه السنة هو السيولة المرورية في الشوارع والميادين وعلي الكباري وداخل الأنفاق، وعلي عكس ما اعتدنا عليه في السنوات السابقة فإن الاختناقات المرورية أصبحت نادرة والازدحام يكاد يكون ليلاً فقط وبعد الإفطار في بعض الأماكن والشوارع وليس في كل البلد. ولكن لأننا بلد نعشق الزحام فإننا رفضنا أن نتخلي عما ألفناه وعرفناه واعتدنا عليه فاستبدلنا المسلسلات والبرامج التليفزيونية بالسيارات وصار الزحام التليفزيوني بديلاً للزحام المروري وأصبح لا يطاق إلا لمدمني الغياب عن الوعي ممن يستطيعون الصمود والجلوس أمام التليفزيون لساعات طويلة دون "شغلة" ولا "مشغلة" وكأنهم خلقوا ليتابعوا ما يحدث في المسلسلات من ضحك علي العقول وركاكة في المفردات والألفاظ وانتهازية سياسية تلعب علي أوتار احتياجات الناس وهمومها لتحقيق الأرباح علي حساب أوجاع البسطاء ومشاكل الوطن. من الواضح أن بيزنس التسلية في رمضان صار مجالاً مهماً للكسب وتحقيق الأرباح الطائلة، وأن مئات وآلافا من المواطنين يعملون في ذلك المجال "ويسترزقون" من ورائه، كما أن مجال بيزنس التسلية في الشهر الكريم انقسم بدوره وتفرع وتشعب ليضم بين فروعه مجالات متعددة من عازف الربابة في الحسين ليصل إلي أكبر منتج للمسلسلات والبرامج الرمضانية وبين الربابة والإنتاج التليفزيوني عشرات "العمليات" التي يأكل من ورائها أصحابها "حلاوة" علي حساب مواطنين أنهكهم الوقوف في طوابير الخبز وضاق بهم الحال وجلسوا قبل وبعد الإفطار ليعيشوا بالوهم حياة أخري علّها تعوضهم عما يعانون. تتكرر الوجوه والأسئلة والإجابات في كل المسلسلات والبرامج إلي درجة صارت تجعلك تعتقد أن رمضان في مصر تحول إلي "مكلمة" كبري أبطالها هؤلاء الممثلون والممثلات والرياضيون والشخصيات العامة. أعرف أن غالبية نجوم البرامج الرمضانية يحصلون علي مقابل مادي ليؤدوا أدوارهم في هذا البرنامج أو ذاك وأن الأمر تحول إلي حرفة لها خبراؤها وصناعها والرابحون من وراءها، وأن بيزنس المسلسلات تفوق أرباحه ما تحققه أي صناعة أخري لسلع مفيدة يحتاجها الناس والمجتمع. شخصياً لست من هواة المسلسلات ولا أقبل علي مشاهدتها ليس فقط لظروفي التي لا تسمح لي بالجلوس طويلاً أمام التليفزيون ولكن لأني أعرف كيف تصنع فلا أقتنع كثيراً بما يدور فيها، ولكن لاحظت خلال متابعة الإعلانات في كل الصحف تقريباً وعلي كل الشاشات تحديداً أن حرباً شرسة تدور بين منتجي المسلسلات وأصحاب القنوات والمسئولين عنها وكذلك بين القائمين علي البرامج الرمضانية لتحقيق أكبر نسبة مشاهدة بغض النظر عن مستوي هذا المسلسل أو ذاك البرنامج، فبيزنس تسالي رمضان تحول إلي موسم لجني المحصول وقطف ثمار ما زرعه أصحاب البيزنس في شعبان ورجب وغيرهما من الشهور التي تسبق الشهر الكريم، الكل أصبح يمارس مهنة الإعلانات: فالقناة تعلن عن المسلسل في الصحف وفي الشوارع وتطلق علينا الإعلانات قبل وأثناء وداخل المسلسل، بالتأكيد لا يوجد إحصاء يحدد قيمة الإعلانات التي أنفقت خلال شهر رمضان، لكن المؤكد أنها تخطت البلايين وأن بلايين أخري أنفقت علي التسالي الرمضانية البرامجية والمسلسلاتية. يلهث الناس وراء لقمة العيش "المدعوم" طوال النهار وتلتهب أجسادهم بسياط الغلاء ثم يجلسون بعد الإفطار منهكين وقد تحولوا إلي أهداف في النهار للتجار ورجال الأعمال والحكومة وفي الليل ضحايا تجار البيزنس الرمضاني، وكلما زادت أعداد القابعين منهم أمام أجهزة التليفزيون زادت مكاسب وأرباح ونجاحات محترفي التسالي. أخيراً لا أعترض علي الترفيه علي الناس وتسليتهم بل شعبنا يستحق بالتأكيد كل ترفيه لتخفيف ما يقاسيه في مختلف النواحي، ولا خطر كبير جراء المستويات الركيكة أو حتي الهابطة من الإنتاج التليفزيوني في كل القنوات لكن الخطر يكمن في قيم أخلاقية تهدر، وتراث إنساني يمحي، وفساد ينتشر ويتوغل ويتحول إلي عادات وتقاليد تصبح من مفردات حياتنا ومشاهدنا اليومية "ووحوي يابيزنس.. أهلاً رمضان".