أُصابُ بالضيق كلما سمعت -على هامش الحديث عن الانتخابات- العبارة الآتية: "فلانا احترمه وأقدّره وأريد أن أعطيه صوتي.. لكن المشكلة أن فرصته ضعيفة، وأنه لن يفوز في الانتخابات". بصراحة شديدة أنا أراها عبارة تنم عن تفكير غاية السطحية، يمكنني أن أتفهمها لو كان الحديث عن مفاضلة بين عدّة جياد في مراهنة على الجواد الرابح في سباق خيل.. أنت هنا لا تعنيك أصالة الجواد ولا براعة الفارس، فقط تريد ألاّ تراهن على جواد يضعك في فئة "الخاسرين"، لكن أن يكون موضوع الحديث المفاضلة بين عدّة أشخاص في أول انتخابات رئاسية بعد الثورة فهذه مصيبة.. المفترض من أي ناخب -يحترم نفسه- أن يتعامل مع صوته باعتباره شهادة أمام الله وأمام وطنه أن "المرشح الفلاني هو في رأيي الأكثر وطنية وكفاءة وأمانة وقوة والأصلح للإشراف على إدارة شئون البلاد خلال الفترة الرئاسية المقبلة"، وألاّ يفرق معه -الناخب- بعد ذلك إن كانت فرص هذا المرشح للفوز عالية أم منخفضة أم حتى منعدمة.
هذا ما يعنيه أن يكون للمواطن موقف سياسي وطني حر؛ لكن أن يبحث عن صاحب الكتلة الانتخابية الضخمة والتي ترفع احتمالات فوزه على حساب قناعاته الشخصية؛ فهنا هو لا يتخلى فقط عن ضميره؛ بل عن حريته ويعود مرة أخرى لثقافة القطيع التي دفع الثوار -وما زالوا يدفعون-دماءهم ثمنا للقضاء عليها.
وإن كانت ممارسة المواطن العادي هذا النمط من التفكير مصيبة؛ فإن ظهوره مؤخرا لدى بعض الثوار كارثة.
بحق الله.. المفترض أن هذا الثائر قد خرج للشارع يوم 25 يناير 2011 وهو لا يضع في رأسه أية احتمالات، لم يبحث عن التظاهرة الأقوى حشدا، لم تخيفه حشود الأمن المركزي، لم تفت في عضده ضآلة عدد الهاتفين معه "أنا خرجت وبس" هكذا نقول جميعا.. كل منا فعل فقط ما يؤمن به.. فماذا تغيّر؟
نفس المشكلة نراها في موقف آخر؛ هو الجدل بين بعض الثوار حول المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها، المسألة بالنسبة لي بسيطة: من يريد المشاركة -مثلي- فليشارك، ومن يريد المقاطعة فليقاطع، ولكل منهما كل الاحترام له، ولحقه في اتخاذ موقفه.. أين المشكلة؟
المشكلة هنا أن عددا كبيرا ممن يريدون المقاطعة يحجمون نتيجة شعورهم أن تلك الدعوة لن تلقى أي صدى اللهم إلا من عدد ضئيل جدا، بينما نرى بين مَن يرفضون مقاطعة الانتخابات مَن لا يحاولون بذل أي جهد لمناقشة ومحاورة المقاطعين باعتبار أنهم "قلة لا وزن لها".. الأول يضحي بحرية موقفه على مذبح "العدد"، والآخر يهين رفاقه باستهانته بهم ويمارس نفس ما مارسه النظام السابق من استهانته بالمخالفين له لاعتقاده قلة عددهم.. مع أن المفروض أننا حين ننتبه لهذا الموقف أو ذاك ونناقش أصحابه؛ فإن هذا يتوقف على الموقف ذاته بغض النظر عن عدد معتنقيه.
ما الصعوبة في تلك العبارة: "أفعل فقط ما أنت مؤمن به"؟ وما الصعوبة في أن نضع لأنفسنا قاعدة "أن كل من يتخذ موقفا ما فهو صاحب موقف بغض النظر عن عدد مؤيديه، وكل صاحب موقف يستحق أن نناقشه حتى لو كان وحده"؟ أليس هذا ما يقتضيه النضج الوطني؟
وأنا هنا لا أهدر أهمية "الحسابات والتخطيطات السياسية" فيمكنك أن تفاضل بين مرشح يمثلك بنسبة 90% وآخر يمثلك بنسبة 70% وتختار من يمثلك بنسبة أقل؛ لأن فرصته أعلى في الفوز ممن يمثلك بنسبة أكبر، ولكن أن تؤدي بك المقارنة إلى من يمثلك بنسبة 50% أو أقل؛ فهنا أستطيع أن أقول بثقة إنك انتقلت من خانة "صاحب موقف" لخانة أخرى غير مشرفة بالمرة.
كذلك لا أقول إن علينا أن نلتفت لكل قلة تتخذ موقفا ما؛ ولكن على الأقل فليكن لدينا الحضور الذهني الكافي للتمييز بين موقف يستحق التجاهل وآخر ينبغي علينا التعامل معه.. وهذا لا يكون من خلال معيار عدد من يتخذون هذا الموقف؛ بل من خلال معايير أخرى؛ كدوافع الموقف المذكور ونتائجه وكيفية التعبير عنه.
إما هذا أو أننا سنجد أنفسنا قد تحولنا تدريجيا إلى مجموعة من المراهنين على الجياد الرابحة بغض النظر عن مضامينها، وستعود ثقافة القطيع لتتوحش وتلتهم أصحاب المواقف المستقلة؛ ليتحولوا إلى كائنات منقرضة.