الحلقة السابعة من مذكرات مصطفى محمود والتي توالي جريدة "المصري اليوم" نشرها تباعا، أفردت هذه المرة كاملة للحديث عن كتاب الراحل "الله والإنسان" وتعليق الأزهر -وتحديدا الشيخ حسن المأمون- على الكتاب، والتي صدرت على أساسها وثيقة تكفّر مصطفى محمود، ولا يعرف أحد حتى لحظتنا هذه من الذي أصدر هذه الوثيقة. مصطفى محمود يكشف عن أن الفتوى التي أصدرها الشيخ حسن المأمون لم يكن فيها من التكفير له على الإطلاق؛ بل إنها حتى لم تطالب بسحب الكتاب من الأسواق وقدّمت نقاط الاتفاق بين الأزهر والكاتب على نقاط الاختلاف، وهو ما عبّر عنه مصطفى محمود بالتأكيد على أن الأزهر بالفعل في هذا الوقت هو إمام الوسطية في مصر، وأنه كان أكثر رقة عليه من الهجوم الذي تعرض له فيما بعد؛ حتى أن الشيخ حسن المأمون نفسه كان أول من صدمه بهذه الحملة الشرسة التي تعرض لها مؤلف الكتاب، والتي كانت أول وثيقة تكفير من نوعها -حسب وصف مصطفى محمود نفسه. مصطفى محمود نفسه كان متخيلاً حتى وقت قريب أن في نص الفتوى فعلا ما دعا إلى إصدار وثيقة تكفيره فيما بعد؛ ولكنه بعدما اطلع عليها بفضل نصيحة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، تبيّن أنها لم تمت للتكفير بصلة، وأنها كان فيها من الحوار والعقلانية ورقة الألفاظ الكثير، ويكفي أنها لم تُرِد ذكر اسم الكاتب منعا للتشهير به؛ وإنما اكتفت فقط بذكر الحروف الأولى من اسمه كالتالي م.م.
نص فتوى الأزهر الخاصة بكتاب "الله والإنسان" سؤال: من الأستاذ: م.ح.أ بطلب قيد برقم 1357 سنة 1957 يرغب فيه منا أن نطّلع على كتاب (الله والإنسان) ونبدي رأينا فيه. أجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: "فقد اطلعنا على هذا الكتاب الذي ألفه الدكتور (م.م) وأخرجه في مارس سنة 1957 بعد أن نشر بعض فصوله في مجلة روزاليوسف. ونظرا لأن هذا الكتاب قد أثار ضجة كبيرة، وطلب مني الطالب بصفته ممثلا لمجمع البحوث العلمية وجماعة البر والتقوى إبداء رأيي فيما نشر بمجلة روزاليوسف من الكتاب، وفي الكتاب نفسه بعد طبعه وتوزيعه على القراء، وقد قرأت هذا الكتاب من أوله إلى آخره قراءة هادئة غير متأثر بما أثير حوله؛ لأنني لا أحب أن يصدر حكمي عليه في جو عدائي له أو جو تسيطر عليه فكرة سيئة عنه". بعد ذلك بدأت الفتوى في عرض نقاط الاتفاق المشتركة بين الأزهر والكتاب كالتالي.. •"إن الكاتب عني في كتابه بتمجيد العقل والعلم والحرية، وإظهار أثرها في تقدم الفرد والأمة، ولا جدال في أن الدين الإسلامي قد سبقه إلى ذلك؛ فقد عرف للعقل قيمته وقدره، وطالب الناس بالتفكير في خلق الله، وبالنظر والاعتبار، ونجد آيات القرآن الكريم حافلة بذلك". •"كما أنه دعا إلى العلم بكل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته وفي مماته، وكل ما يرفع شأن البشرية، ويحقق على الوجه الأكمل معنى خلافة الإنسان عن الله في أرضه، يعمرها ويستخرج كنوزها ويفيد من كل ما وضع الله فيها، وأيضا فإن الإيمان الذي فرضه الإسلام وسائر الأديان السماوية، وهو الإيمان بأن للعالم إلها واحدا هو الله سبحانه وتعالى، وهو المستحق وحده للعبادة والذي يستعان به ولا يستعان بغيره في كل شؤون الحياة يحقق معنى حرية الإنسان في أسمى صورها وأعلى مراتبها؛ فالمؤمن إيمانا صادقا لا يكون عبدا لغيره، ولا عبدا لشهواته، ولا لأي شيء آخر سوى الله سبحانه وتعالى الذي خلقه وخلق كل شيء". وبعد أن انتهى الشيخ المأمون من عرض نقاط الاتفاق بدأ في عرض نقاط الاختلاف؛ ولكنه عرضها بشكل محترم ليس فيه تتفيه من سمعة أو مكانة من اختلفوا معه -د.مصطفى محمود- دون نعتهم بالكفر؛ وإنما بالتأكيد على أن الكاتب لم يكلف نفسه عناء البحث والدراسة في الدين، وأنها أخطاء لم يقصدها بقدر ما إنه لو تدبر فيها لتراجع عنها.
وكانت أهم نقاط الاختلاف التي تناولتها الفتوى كالتالي.. • أولا أن مصطفى محمود قال في كتابه "الله والإنسان" (والطريقة العصرية في بلوغ الفضيلة ليست الصلاة؛ وإنما هي الطعام الجيد والكساء الجيد، والمسكن الجيد، والمدرسة والملعب والموسيقى، لقد صنعنا الصلاة على المذاهب الأربعة ولم يبق إلا أن نجرب الطعام الجيد). وهو ما يعترض عليه الشيخ المأمون ليس في جوهر ما يقول؛ وإنما في الألفاظ المصطنعة كقوله صنعنا الصلاة؛ حيث إن الصلاة أمر إلهي ولم نصنعها، وهو الخطأ الذي يعتبره الشيخ المأمون خطأ فاضحاً كان يمكن تلافيه. • ثانيا ورد في الكتاب ذاته قول د.مصطفى محمود (الأديان سبب من أسباب الخلط في معنى السعادة لأنها هي التي قالت عن الزنى والخمر لذّات وحرّمتها فتّحولت هذه المحرمات إلى أهداف يجري وراءها البسطاء والسذج على أنها سعادة، وهي ليست بسعادة على الإطلاق)، وهنا يعتقد الشيخ أن المؤلف أغفل ذكر الحكمة الإلهية وراء تحريم مثل هذه الأمور؛ مستخدما المبررات العلمية التي لم يكن يقتنع د.مصطفى محمود وقتها بمثل غيرها؛ حيث أكد أن الخمر تم تحريمه لأنه يغيّب الإنسان عن عقله، العقل الذي يقدسه العالم مصطفى محمود؛ بينما جاء تحريم الزنا من أجل الحث على الزواج، وبالتالي التناسل، ومن ثم الحفاظ على النوع البشري، وبالتالي لم يكن التحريم تشددا أو رغبة في التضييق على البشر. • ثالثا يعتقد د.مصطفى محمود في كتابه "الله والإنسان" والذي تراجع عن أغلب أفكاره فيما بعد وسحبه من الأسواق وحرق النسخ الموجودة (إن الله فكرة، إنه فكرة في تطور مستمر، كما تدل على ذلك قصة تطور الأديان..) وفي فقرة أخرى يقول (وشريعة هذا الدين -أي الذي يدعو إليه- بسيطة جميلة وهي الولاء للحياة)، الفتى لم يتمكن من تلافي هذا الاعتقاد والمرور عليه دون توقف؛ حيث أكدت الفتوى "الكاتب هنا يطعن في الذات الإلهية؛ فيتحدث حديثا ما كان واجبا أن يتحدث بمثله.. ويضيف.. لا أيها الكاتب المتعلم تعليما جامعيا ليس الله فكرة كما تقول؛ وإنما سبحانه وتعالى ذات منزهة عن صفات الحوادث ومتصفة بجميع صفات الكمال، وهو الذي خلقك وخلق كل ما تراه حولك؛ فليس الله فكرة متطورة كما تقول، وليست الأديان قصة كباقي القصص التي لا أصل لها؛ وانما الأديان السماوية حقيقة، أيدها الله سبحانه وتعالى بالمعجزات، التي أجراها على أيدي رسله". وردت بالفتوى اعتراضات أخرى كثيرة عن بعض الأفكار الواردة في كتاب مصطفى محمود، وكان ما سلف جزءاً منها؛ ولكن مصطفى محمود لم يتمكن من منع نفسه من الثناء على مستوى الحوار الراقي الذي اتبعه الشيخ حسن المأمون عكس ما هو حادث الآن، متهماً بعض فتوات الأزهر بأنها تصنع من مغمورين نجوما ساطعة، وتجعل الإقبال على كتبهم يضرب أرقاما خيالية بفضل فتاواهم التكفيرية لهم.