لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. عُرف المخرج اليوناني العظيم كوستا جافراس بأفلامه السياسية الجريئة، قلنا فيما سبق إن أسلوب كوستا جافراس الذي ابتدعه يخلط بين الفيلم السياسي والبوليسي بطريقة فريدة؛ بحيث يكون هناك غالبا تحقيق في جريمة ومحقق شريف، ثم يكتشف المحقق أنه يدخل عش دبابير وأن الجريمة سياسية بامتياز. هنا يُشاهد المشاهد الفيلم السياسي وهو متوتر ويجلس على حافة مقعده، عندنا في مصر جرّب المخرج العظيم كمال الشيخ ذات الأسلوب في فيلم "على من نطلق الرصاص" الذي يبدو لمن يراه أولا أنه مجرّد فيلم بوليسي، وكذلك "زائر الفجر" الذي أخرجه ممدوح شكري. اشْتُهر كوستا جافراس بفيلمه الجريء "مفقود" الذي قدّمناه في هذا الباب من قبل، ثم اشْتُهر بفيلمه عن فلسطين "هانا ك" عام 1983، وهو فيلم أثار حنق الإسرائيليين والعرب على السواء! لقد أراد العرب أن يتكلّم كوستا جافراس عن إسرائيل بعنف وبشكل قاطع كأنه عربي، بينما هو يتكلّم من وجهة نظر غربية، والنتيجة أنه لمّا عرض فيلمه في مصر مزّقه النقّاد والسينمائيون المصريون تمزيقا، لدرجة أنه قال لهم في المؤتمر الصحفي: "ما دمتم تعرفون ما يجب عمله لهذه الدرجة، فلماذا لم تصنعوا أنتم فيلمكم الخاص عن القضية الفلسطينية؟".
اشْتُهر كوستا جافراس بفيلمه الجريء "مفقود" اشْتُهر كوستا جافراس كذلك بفيلم "زد" الذي اجتاح الحياة الثقافية في مصر والعالم كله عام 1969، والذي يحكي عن اغتيال مناضل سياسي يوناني على يد عصابات البلطجية الذين يحملون السنج والعصي، والذين أرسلهم الحزب الحاكم!! لا أدري لماذا يبدو هذا الكلام مألوفا.. أذكر أننا كنا في العام 1970 نعيش تلك الفترة القلقة الكئيبة بين حربين، وكنت أذهب للمدرسة الابتدائية في الصباح لأجد ذلك الملصق الغريب غير المفهوم في كل مكان Z.. عرفت أن هذا اسم فيلم يُعرض في السينما، وبدا لي غريبا.. هناك أفلام معدودة على كل حال اسمها مكوّن من حرف واحد، لكن الفيلم كان قد سبّب عاصفة حقيقية لدى المثقفين وطلبة الجامعة الاشتراكيين، وفي ذلك الوقت كانت اللجنة الثقافية في كل كلية تقريبا تعرضه على طلبتها على جدار مدرج مصفر وخشن لا يصلح للعرض عليه، وفيما بعدُ قرأت عنه في كتاب رءوف توفيق "السينما عندما تقول لا" ولم أرَه إلا متأخرا. الفيلم إنتاج فرنسي جزائري، كما أن التصوير تمّ في الجزائر في معظمه.. كتب كوستا جافراس سيناريو الفيلم مع سيمبرون عن رواية بنفس الاسم للأديب اليوناني فاسيليس فاسيليكوس.. معنى الاسم الغريب هو "إنه حي" باليونانية، والكلام عن نائب المعارضة الذي مات طبعا.. يبدأ الفيلم بعبارة مثيرة: "أي تشابه مع أحداث حقيقية أو شخصيات على قيد الحياة ليس مصادفة وإنما هو مقصود!". راقت لي هذه العبارة جدا ووضعتها في بداية أكثر من قصة لي، لكن المصحح اللغوي في كل مرة يفترض أنني جاهل وأحمق ويقوم بتصحيحها إلى "أي تشابه هنا غير مقصود... إلخ". يقدّم المخرج الفيلم في بلد غير محدد، وإن كنّا نخمّن بوضوح أنه يتحدّث عن اليونان أثناء حكم الجنرالات.. الحكم العسكري القمعي الشهير، هذا فيلم يُثير أسئلة مُقلقة عما يحدث عندما يقترب العسكر من السلطة أكثر من اللازم، وبالتأكيد سوف تتوقّف عدة مرات أمام تشابه غريب مع حاضرنا. إن البداية شهيرة جدا ويعرفها كل عاشق للسينما.. يصل للبلدة نائب في حزب المعارضة "إيف مونتان" ليلقي محاضرة.. يُقدّم الفيلم هذا النائب كحلم، وينحاز إليه من اللحظة الأولى خاصة مع موسيقى تيدوراكيس التي تخبرك بما لا يقوله المخرج.. يعرف من يعرفون اليونان أن النائب يمثل "لامبراكيس" زعيم المعارضة اليوناني الذي اغتيل عام 1963. لاحظ أن النائب ماركسي بشدة.. وهي نفس توجّهات فاسيليكوس طبعا.. يواجه النائب المتاعب طيلة الوقت ومنذ لحظة وصوله، بدءا بإلغاء إيجار قاعة الندوة، وانتهاءً بجيش من البلطجية المسلحين، يصل البلطجية الذين جاءوا لينسفوا المؤتمر.. يضربون أنصار النائب.. شاهد مجموعة من مشاهد الفيلم مع موسيقى تيدوراكيس الرائعة إضغط لمشاهدة الفيديو: كالعادة يلعب رجال الشرطة الدور الذي عرفناه.. يقفون صامتين يراقبون ما يحدث ولا يُحرّكون ساكنا، تندفع سيارة مسرعة وفيها بلطجي يحمل عصا معدنية، يهوي بها على رأس النائب فيقتله وتفرّ السيارة.. لقد قتل المخرج نجما مهما في بداية الفيلم، لكننا سنعرف أنه كذلك جاء بالممثلة العظيمة إيرين باباس لتقول ثلاث جمل فقط، وهي هنا تلعب دور أرملة النائب. يبدأ المحقق الشاب جان لوي ترنتيان التحقيق.. هذا هو الدور الثابت في كل أفلام كوستا جافراس.. المحقق الشريف الذي يدخل جُحر الدبابير، وهو مصرّ في البداية على تسمية ما حدث "الحادث".. تدور اللعبة الشهيرة حيث يتلقي تهديدات من رؤسائه، وتفوح رائحة أشخاص مهمين جدا في الحكومة.. إن الفساد تسرب لكل شيء حتى النظام القضائي للدولة. مع الأسف لم أجد لقطات مترجمة للإنجليزية على يوتيوب، لذا شاهد هذا المشهد إذا كنت تجيد الفرنسية إضغط لمشاهدة الفيديو: مع الوقت يصير اسم ما يحدث "الاغتيال"، ويستدعي أربعة من كبار رجال الشرطة ليتهمهم بالتواطؤ.. شاهد مشهد النهاية هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: وفي النهاية نعرف أن الحكومة سقطت.. شهود القضية انتحروا جميعا.. المحقق الشاب اسْتُبعد.. الصحفي الذي سجّل القضية سجن، لكنهم وجدوا معه أوراقا عليها حرف Z الذي يعني "إنه حي"، هذه طريقة كوستا جافراس الدائمة في معظم أفلامه عندما يخبرنا أن الأمور لم تنتهِ بشكل وردي. يقول كوستا جافراس في مؤتمر صحفي: "بعض رجال الشرطة أقوياء فقط بالشرائط الملونة على أكتافهم والنياشين على صدورهم، لكنهم يتحوّلون إلى فئران مذعورة عندما يواجههم الآخرون". فاز فيلم "زد" بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1969، كما فاز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان كان، وفاز بجائزة نقاد نيويورك عام 1969. شاهد تريلر الفيلم هنا إضغط لمشاهدة الفيديو: فيلم "زد" فيلم سياسي مهم من أفلام الحافظة الزرقاء، ولو جاءتك الفرصة لتراه فلا تفوّته..