السنوسي محمد السنوسي هو تاريخ طويل قطعه الشعب المصري الذي حاول أن يثبت دائمًا أنه أقوى من أن يُهدّد بلقمة العيش، أو أن يُلوى ذراعه بالترهيب بعد فشل الترغيب. في أوائل القرن العشرين وتحديدًا عام 1931 هبّ الشعب المصري لإنقاذ الاقتصاد الذي كان يعاني آنذاك من آثار انخفاض أسعار القطن في الأسواق، وللوقوف ضد الضغوط الغربية التي كانت وراء إغلاق مصنع الطرابيش حتى يلجأ الشعب لاستيرادها.. فهبّ الشعب المصري بقيادة الزعيم أحمد حسين والمناضل فتحي رضوان اللذين كانا وراء "مشروع القرش"، الذي هدف إلى دعم الاقتصاد المصري ولو بقرش من كل مواطن. أرجوك لا تَسخرْ من تكاتف الشعب لدعم الصناعة الوطنية بتكوين مصنع للطرابيش! فقد كان الطربوش رمزًا للسيادة والثقافة والهوية الوطنية، ضد محاولات نشر "القبّعة" التي هي رمز للتغريب والالتحاق بالثقافة الغربية.. فضلا عن كون الطربوش زيّا يلبسه الآلاف، ولا شك أن استيراده يكلّف الكثير. وقد لقي "مشروع القرش" دعمًا من الحكومة، وقام على جمع التبرعات له آلاف الطلبة والمتطوعين، ونجح المشروع وأنشئ من أمواله مصنع في العباسية؛ لتصنيع الطربوش المحلي بدلاً من المستورد، وتم الافتتاح في 15 فبراير 1933. دعم أمير الشعراء أحمد شوقي المشروع بأشعارٍ قال فيها: اجمعْ القرش إلى القرش يكنْ لك من جمعهما مال لُبَدْ كما دعمه الكثير من الأحزاب باستثناء حزب الوفد، الذي رأى في الزعيم أحمد حسين خصما سياسيا، فتجاهل نُبل المشروع وهدفه الوطني!! كان شعار اللجنة التنفيذية ل"مشروع القرش" هو "تعاون وتضامن في سبيل الاستقلال الاقتصادي".. وهو أيضًا الشعار الذي أرى أننا نحتاجه الآن؛ للوقوف خلف مبادرة الشيخ محمد حسان "مبادرة العزة والكرامة"، بعد أن تحوّلت المعونة من مساعدة ووسيلة تعارف وتعاون بين الدولة المتقدمة والنامية، إلى وسيلة ضغط وابتزاز ومساومة.. وقلْ ما شئت في ذلك!! لا أحد يمكنه أن يختلف حول نبل وسموّ ووطنية وضرورة دعوة الشيخ محمد حسان، بل الأمر المؤكد أننا قد تأخرنا كثيرًا عن الالتفات لخطورة قبول المعونة وما يترتب عليها من مفاسد كثيرة، أقلها: ابتزاز الإرادة المصرية، وقد كان زوال مبارك ونظامه الفاسد السبب الجوهري في كشف الحقائق المخفية، والسماح للأصوات الشريفة أن ترتفع لإعلاء المصلحة الوطنية والوقوف ضد الضغوط أيّا كان حجمها ومصدرها. ولكن يجب أن نفكر: كيف تكون مبادرة الشيخ حسان فعالة وقادرة على تحقيق أهدافها؛ حتى لا نصاب بخيبة أمل، خاصة ونحن نبدأ أولى الخطوات لمراجعة حياتنا على مستوى الداخل والخارج. البعض يتخوف من أن المبادرة قد لا تجمع مبلغ المعونة ال1.3 مليار دولار.. حتى إن نجحت في العام الأول، فمن يضمن لنا نجاحها باستمرار؟ والبعض يقول إن الحالة الاقتصادية السيئة للشعب الآن تجعل من غير المناسب أن نثقل كاهله أكثر بطلب التبرع والمشاركة في دعم البلد، بينما هو الذي في أمسّ الحاجة للدعم.. وأنا أتفق مع أصحاب هذه التخوفات، وأرى أنه من الضروري أن نأخذها في الاعتبار، ومع ذلك ف"الفكرة" التي وراء المبادرة -وهي الشعور بمسئولية الجميع في الاستقلال الاقتصادي كمدخل أساسي للاستقلال السياسي والوطني- هي عندي أهم من جمع المبلغ بالفعل! صحيح أن النجاح في جمع المبلغ يعطي مصداقية أكثر للفكرة، لكن نشر الوعي بطبيعة المعركة والتحديات وبدور الجميع أيا كان موقعه وأيا كان مركزه المالي هو الأساس في المبادرة وفي تفعليها على نطاق واسع. فحتى إذا فشلنا في جمع مبلغ المعونة، فليس هذا مبررًا للاستمرار في أخذها والخضوع لشروطها المهينة.. ومن المهم أن نعلم أن من يبحث عن استقلال قراره الوطني وعن حريته وكرامته، يجب عليه أن يعوّد نفسه على التقشف والاستغناء عن بعض الضروريات فضلاً عن الكماليات. وفي مقابل هذا، أتصور أن مسئولية الاستغناء عن المعونات الخارجية بصفة عامة تقع أولاً وبصفة أساسية على الدولة، خاصة أن مصر ليست أبدًا دولة فقيرة، بل منهوبة ومسروقة! وفيها ملايين الجنيهات لا تخضع للقانون والرقابة، مثل الصناديق الخاصة المنتشرة في كل الوزارات تقريبًا، والتي تعتبر مرتعًا للفساد والمحسوبية.. فأين الدولة بعد الثورة من ضبط هذه الصناديق؟! وأين الخطوات الجادة في تحديد الحد الأقصى للأجور؟ وأين الدولة من إهدار المال العام في تصدير الغاز لإسرائيل؟ وأين ذهبت ملايين الجنيهات التي كانت مخصصة للإنفاق على مبارك وعلى ما سمي مؤسسة الرئاسة؟! (ولا كان فيه مؤسسة ولا يحزنون!) وأين يذهب إيراد قناة السويس ومناجم الذهب وغيرهما من الثروات الطبيعية؟! وأين؟ وأين؟! أسئلة كثيرة تبين أن الدولة ما زالت تمتلك الكثير من الأوراق والوسائل لإصلاح الاقتصاد وتوفير الموارد اللازمة البديلة للمعونة الأمريكية.. ومع هذه المسئولية للدولة، فأنا أرى ضرورة إشراك المواطن مهما كان دخله ووضعه في هذا التحدي، حتى يشعر الجميع بطبيعة المرحلة وخطورتها وبالمسئولية. وأنا على ثقة بفضل الله بأن مصر التي كانت مستودعًا للقمح و"سلة غذاء" للإمبراطورية الرومانية يومًا ما، لن تبخل بخيراتها على أبنائها.. فقط تحتاج إلى من يُحسن إدارتها بخبرة وبصيرة وأمانة ونزاهة.