أن ترى شابًا في ريْعان عمره، يهتف بحماس ويجري ويصول ويجول..
وفجأة..
لا شيء..
يصمت صوته..
تنقطع أنفاسه..
تتناثر دماؤه..
لا شيء..
فتصرخ بأعلى صوتك.. ماذا حدث؟
فتجد من يردّ عليك بكلمة تخرج بكل سهولة..
تمامًا كما تخرج الرصاصة من مدفعها بكل سهولة..
"مات"..
"إزاي؟ وليه؟ وميييين؟"
لا إجابة.. إلا قولاً واحدًا..
حسبنا الله ونعم الوكيل
***
تغيّرت عندي كلّ معاني التسامح والعفو التي رباني عليها والدي الأربعاء 2 فبراير 2011..
أطول أيام حياتي..
يومٌ..
تغيّرت فيه عندي كلّ معاني التسامح والعفو التي رباني عليها والدي..
اسودّت فيه الحياة أمام عينيّ..
تعلمت فيه معنى الانتقام..
***
وودعتني والدتي بقولها الدائم لي: "ربنا يحفظك إنت والشباب إللي زيّك".. بدأ يومي في الحادية عشرة صباحًا، كنت على موعد مع صديق عمري "عمرو أبو الليل"، حيث اتفقنا ليلاً أن ننهي وردية حراستنا للشارع الذي نسكن فيه مبكرًا، ونسلمها لأحد الجيران، حتى نستيقظ صباحًا لنذهب إلى ميدان التحرير..
سألته: تفتكر يا عمرو إن الثورة هتكمل بعد خطاب مبارك العاطفي ده؟؟
فردّ: مش عارف.. بس لازم ننزل بكره الميدان.
ذهبنا سويًا وكل واحد منا أقنع أهله بأنه ذاهب للعمل.. وربما يبيت فيه؛ لأن الجيش في فترة حظر التجول لا يسمح لأحد بالمرور.. وبالتالي قد لا يكون من السهل العودة إلى البيت في نفس اليوم..
قَبِلت والدتي ما أقوله على مضض.. وكأنها تقول في نفسها: "أنا عارفة إن ابني بيكدب ورايح التحرير".. وودّعتني بقولها الدائم لي: "ربنا يحفظك أنت والشباب اللي زيّك"..
وصلنا إلى شارع قصر العيني.. وجلسنا في أحد المقاهي نتناول الإفطار قبل أن ندخل إلى الميدان.. واتصلنا عندها بأصدقائنا الذين يبيتون هناك منذ الأمس، وعرفنا أنهم عند مدخل كوبري قصر النيل.. سألناهم ماذا يريدون أن نحضره لهم من خارج الميدان؟ فطلبوا "أي حاجة ناكلها"..
ذهبت وصديقي عمرو إلى حيث يوجد باقي أصدقائنا عند مدخل الميدان من ناحية كوبري قصر النيل، وجدناهم يقفون صفا واحدا، مشبكين أيديهم في أيدي بعض أمام دبابات ومجنزرات الجيش، وبعضهم يقوم بتفتيش الداخلين، والبعض الآخر يقف حائط سد..
وينظّم المدخل والشباب شخص بشوش الوجه أحيانًا، وذو وجه يحمل الجدية في معظم الأحيان، طويل القامة، يرتدي نظارة سوداء، يحظى باحترام كل الشباب الواقفين؛ لوجهه الصارم، وكلماته الرقيقة والحماسية في آن واحد.. وينادونه بالدكتور.
عرفت فيما بعد أنه أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وكانت مهمته قيادة حماية الميدان من مدخل كوبري قصر النيل.. وكل فترة وأخرى كان يأتي بالمياه وبعض المخبوزات القليلة للشباب الواقفين على لجنة النظام..
انصرف بعض أصدقائنا الذين يبيتون من الأمس؛ ليستريحوا قليلاً قبل أن يعودوا إلى الميدان أو يتابعوا حراستهم الليلية في مناطق سكنهم، وطلبوا مني وصديقي عمرو الوقوف مكانهم في وردية الحراسة عند مدخل كوبري قصر النيل، وبالفعل اتخذت وصديقي أماكننا وسط لجنة حماية الميدان، وكل فترة يأتي إلينا الدكتور ويهتف: "اجمدوا يا شباب، ماحدش يسيب مكانه مهما حصل، ولو حد تعب يقول علشان نشوف حد يقف مكانه، لكن مايسيبش مكانه كده ويمشي"..
بعدها وقف الدكتور أمام الشباب الذين يقومون بعملية التفتيش وهتف فيهم: "يا شباب نعامل الناس اللي داخلة برفق، وماحدش يفتّش حد غصب عنه.. ابتسم في وجه اللي بتفتشه.. وعرّفه إن ده لمصلحتنا كلنا.. ولو لقيت بطاقة حد داخل مش مكتوب فيها حاجة أمام خانة المهنة ماتدخّلوش؛ لأن ده يبقى أمن دولة"..
بدأت أتبادل أطراف الحديث مع أصدقائي الذين يبيتون منذ الأمس في الميدان، وبدأت أتعرف على شباب جدد، وكلنا كنا نتحدث فيما يجري هنا بالميدان.. وذلك الرجل العنيد المتمسك بكرسيه.. وخطابه العاطفي الذي ألقاه بالأمس.. وأبكى به نسبة من المصريين..
حوالي الساعة الثالثة والنصف.. وجدنا مجموعات تهتف من آخر كوبري قصر النيل تتجه نحونا: "الشعب يريد السيد الرئيس"..
هنا هتف الدكتور: "اجمدوا يا شباب.. ماحدش يحاول أن يستفزكم.. ماتردّوش على حد حتى لو شتمكم.. خلّوا أخلاقكم تعبّر عنكم.. وأهم حاجة ماحدش يسيب مكانه مهما حصل، وماتخلوش الناس اللي جاية دي تدخل الميدان.. شدّوا حيلكم يا شباب"..
وقف هؤلاء القادمون من آخر الكوبري -وكان يبدو على بعضهم مظاهر الاحترام- يهتفون لصالح مبارك ونظامه، ويطالبون ببقائه.. ويهتفون: "الشعب يريد الاستقرار"..
وبعد مرور حوالي نصف ساعة حاول خلالها هؤلاء أن يدخلوا إلى الميدان وفشلوا.. لاحظت أن الوجوه تتبدل..
فهناك من انصرف.. وهناك من جاء..
الأشخاص الذين كان يبدو على وجوههم علامات الاحترام ليس لهم وجود.. ووجدت مكانهم أشخاصًا آخرين يبدو على أغلبهم علامات الإجرام..
وتحوّل الهتاف إلي ألفاظ نابية توجّه إلينا..
حدثت بعض المشادات..
الهجانة اقتحموا الميدان!!! وقام الدكتور -الذي لا أعرف اسمه إلى الآن- بفضّها.. ناصحًا الشباب بتحمل السباب الموجّه إليهم في سبيل ما جاءوا إلى الميدان من أجله..
فجأة.. سمعنا ضجيجًا وصيحات تأتي من داخل الميدان.. وهناك من يجري إلى الداخل وهناك من يجري نحونا..
هتف الدكتور فينا: ماحدش يسيب مكانه.. ماحدش يسيب مكانه..
وفي هذه اللحظة حاول ذوو الوجوه الإجرامية اختراق صفوفنا والدخول إلى الميدان.. فقام الدكتور بضمّ كل من يدخل إلى الميدان من المساندين للثورة إلى صفوفنا.. وفي هذه اللحظة تفرّقت وجميع أصدقائي؛ لأن الصفوف أصبحت كثيرة وكبيرة..
ومع الأسف كانت الأعداد داخل ميدان التحرير قليلة؛ نظرًا لأنه سبق ذلك اليوم مليونية.. وتجرى غدًا الخميس مليونية أخرى.. فانصرف معظم من شاركوا في مليونية الثلاثاء ليستريحوا حتى يشاركوا في مليونية الخميس.. تاركين ليوم الأربعاء عددًا قليلاً مهمته الحفاظ على ميدان التحرير..
الضجيج داخل الميدان مستمر.. وكان معظم من يقف بالصفوف يريد أن يدخل ليعرف ماذا يحدث بالداخل.. وفي نفس الوقت لو ترك مكانه سيدخل هؤلاء الذين تبدو على وجوههم جميعا علامات الشر والإجرام من مدخل كوبري قصر النيل إلى داخل الميدان ولا نعلم على ماذا ينوون..
اقترب أحد الشباب منا آتيا من الداخل.. سألناه في نفس واحد ماذا يحدث.. فرد علينا..
"الهجانة اقتحموا الميدان"..
هجانة؟!!!
هجانة مين ياعم انت؟!!! أنا عارف إن كان فيه زمان ناس تابعين للشرطة اسمهم "الهجانة"؛ لأنهم كانوا يمتطون الجمال، وكان أغلبهم من السودانيين الموجودين في مصر.. بس مافيش منهم دلوقتي!!!
هجانة مين يا عم انت؟؟
قال لنا: فيه ناس دخلت بجمال وخيول الميدان.. ومعاهم شوم وسنج وسيوف، وفيه ناس كتير اتعورت..
سألته: فيه حد من الثوار مات؟
قال: غالبًا لأ.. بس لسه بييجي منهم أعداد والشباب بينطّوا على الجمل ويجبيوا اللي راكبه من قفاه، ويتلمّ عليه الناس ويعلّموه الأدب..
معظمنا حاول الخروج من الصف للاشتراك في مؤازرة المحاربين للجمال ومن عليها بالداخل.. لكن الدكتور هتف بكلامه الحماسي وقال كلمة لم أدرك معناها حينما هتف بها: "أنتم على ثغر.. ماحدش يسيب مكانه.. اثبتوا يا شباب.. ماحدش يسيب مكانه"..
أطلقت صافرة طويلة من أحد المتظاهرين الرافعين لصور مبارك حوالي الساعة الرابعة..
أطلقت صافرة طويلة من أحد المتظاهرين الرافعين لصور مبارك..
وكانت إشارة بدء ساعة الصفر.. وبدأت الفاجعة..
***
الصدمة.. شعور قاسٍ للغاية.. وتتباين القسوة بتباين قوة الصدمة.. فهناك من يُصدم لفقدان حبيب.. وهناك من يُصدم بخبر مزعج.. لكن.. أشد الصدمات قسوة تلك التي تراها بأمّ عينيك.. ويطلب منك التعامل معها فتعجز.. شعور يصعب التعبير عنه بمجرد كلمات.. بل يحتار العقل في استقباله وترجمته بعلامات تظهر على الوجه.. فيتساءل العقل حينها.. هل آمر العين بأن تبكي؟!! أم آمر الوجه بأن يبدي علامات الدهشة؟!! ويظل الإنسان بين حيرة عقله وعجز تصرفه.. يا له من شعور قااااااااااااااااسٍ.. ***
لا مبالغة في وصفها بالحرب.. انهالت علينا حجارة الرخام المدبّب من كل ناحية..
لا أعلم أأثبت في مكاني.. أم أفرّ هربًا من ويلات الحجارة.. تذكّرت زملائي.. أحدهم أمسك بيدي –ولا أعرفه مسبقًا- وقال: اثبت لعلها الشهادة.. لنا أخوات بالداخل بنات ونساء لو دخل عليهم هؤلاء البلطجية لفتكوا بهن..
الحجارة تُقذف علينا بلا رحمة.. والشباب يتساقط بين مفقوء العين وجريح الرأس والأيدي..
بدأت أحاول إسعاف زملائي.. ولم أر أيًا من أصدقائي.. وحاولت الاتصال بأي منهم لأطمئن عليه.. الأحداث متسارعة..
الحجارة تصيب.. والمولوتوف يحرق.. والكل يصول ويجول.. منهم من يضع يديه على جرحه ويجري نحو عيادة الميدان لإسعافه.. ومنهم من يحمل شابًا مصابًا.. ومنهم.. نعم منهم.. من يحمل شابًا.. ميتًا.. نعم ميتًا..
***
كنت أسمع عن الموت...لكن لم أره بعيني ياااااااااااااااه كنت أسمع عن الموت.. وكنت أحضر جنازات لأقاربي أو معارفي المتوفين.. لكن أن أرى الموت بعيني.. يا لحقارة الدنيا.. تنقضّ الحجارة عليك فتصيبك في مقتل.. أو رصاصة تُقصف بها من مكان مجهول لا تعلم مصدره فتموت.. نعم تموت.. موت.. لا حياة.. وفجأة.. ودون حساب.. والله عندها ذهلت.. أستنقضي حياتي الآن؟ أهي النهاية؟ وبدأت في هذه الأحداث المتسارعة أسأل نفسي.. هل أنا جاهز للقاء الله؟؟ الشباب يموتون من حولي.. هل أنا جاهز للحساب؟؟
****
وقف الشباب يدافعون بأرواحهم عن الميدان ردّ عليّ أخيرًا صديقي عمرو أبو الليل.. ها يا عمرو فينك؟ عمرو: أنا معايا محمد منصور ورايح بيه على قصر العيني؟ ليه هو حصل له إيه؟ عمرو: اتصاب ومش عارف أحدد الإصابة حجمها أد إيه بس مناخيره تقريبًا ضاعت؟؟ انتوا فين دلوقتي.. أنا هاجيلكم.. عمرو: لا خليك في الميدان؛ لأن الميدان محتاج شباب والبلطجية بيكتروا.. اثبت أنت عندك.. وأنا مع محمد وهابقى أطمنك..
***
جثث الشهداء لم تزل صورها من عيني حديثي عن تفاصيل هذا اليوم لن يكفيه هذا المقال.. ولا عشرات غيره.. تفاصيله مرت عليّ كعام كامل عشت فيه..
لكني أتذكر كل دقيقة فيه..
أتذكر عندما سجدت على الأرض وأنا أصلي العشاء عند مدخل عبد المنعم رياض.. وكانت الأرض مغطاة بدماء الشهداء والمصابين.. وكانت تطبع على جباهنا ونحن نصلي.. وأشعر بأنها ما زالت على جبيني..
أتذكر صديقي المهندس مصطفى عبد الحليم، وصديقي محمود فتحي –الذي يقضي الآن خدمته بالقوات المسلحة- وهما مصابان في رأسيهما بجروح قطعية نتيجة الرخام..
أتذكر شابا أمسكت النيران في ملابسه وهو واقف إلى جواري.. لأن قنبلة المولوتوف اختارته فاشتعلت فيه النار، وكلنا نضرب على جسده بأيدينا حتى أطفأناها.. ولكنها لم تشأ أن تنطفئ إلا وقد تركت على وجهه علامات الحريق..
أتذكر أُمَّا عندما جلست على الأرض تبكي وتصرخ: هاتوا لي ابني.. مش لاقياه.. واوعوا تقولوا لي إن البلطجية موّتوه..
أتذكر نساء وبنات جلسن يكسرن الحجارة.. لتحملها أخريات إلى مداخل الميدان.. حيث يقف الشباب يدافعون بأرواحهم بحجارة أمام رصاص يُقصف من أعلى مبانٍ لا نعلم من أين يأتي..
أتذكر وأتذكر وأتذكر..
***
أقسمت على نفسي ألا أغادر الميدان حتى يعلن مبارك تنحيه.. وأقسمت أيضا ألا أترك ثأر زملائي وأصدقائي.. جثث الشهداء لم تزل صورها في عيني.. شاب كان يجري أو يمشي.. جالسًا أو واقفًا.. وفجأة يموت برصاصة غدر.. لا نعرف مصدرها.. لكنهم شهداء.. روح وريحان ونعيم في قبورهم.. لا حساب بعده.. وجنة الخلد مصيرهم وسكنهم..
***
لكل من سوّلت له نفسه أن يقتل أو يصيب أو يحرّض ضد مواطنيه المصريين.. ويلٌ لكم من حساب عسير.. لا أمام قاض قد يحكم بالبراءة.. ولكن أمام حَكَم عادل.. حكمه ناجز ونافذ.. عزيز منتقم جبار.. لكل من تولى أمرًا سواء كنت رئيسًا أم وزيرًا أم عضو برلمان.. دماء شهدائنا ومصابينا في أعناقكم.. سيسألكم الله عنها..
وإلى شهدائنا.. لا تحزنوا لأناس يسعون لإضاعة دمائكم هدرًا..
ولتفرحوا بما آتاكم الله من فضله.. ألّا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون.. مستبشرين بنعمة من الله وفضل لم يمسسكم سوء.. وأن الله لا يضيع أجر المحسنين..