السنوسي محمد السنوسي أنا عارف إن البعض ممكن يعتبر هذا السؤال نوعًا من الاستغباء أو الاستعباط!! ويقول إن ثورة 25 يناير هي أبلغ رد عليّ، وإن هذا السؤال كان من الممكن أن يُطرح قبل الثورة حين فقد كثيرون الأمل في الشعب المصري، وليس بعد الثورة التي شهد العالم كله بعظمتها!! ولكني أقول -وأرجو أن يتحملني قليلاً من يخالفني الرأي- إننا لسنا شعبًا ثورجيّا!! بل حتى لا يوجد أي شعب آخر ثورجي!! الثورة هي بطبيعتها لحظة استثنائية في الحياة، سرعان ما تبدأ الشعوب بعدها في ممارسة حياتها بشكل طبيعي. ويخطئ من يحاول أن يجعل أيّ شعب في حالة ثورة دائمة؛ لأن الثورة تشبه مثلاً الانعقاد الدائم لمجلس الوزراء وقت الأزمات، فإذا انتهت الأزمات عاد المجلس للانعقاد بالصورة الدورية الطبيعية. الثورة في حياة الشعوب تشبه أيضًا سلاح الطيران بالنسبة للحروب.. فسلاح الطيران له دوره المهم والمحوري والرئيسي في توجيه ضربة مؤلمة للخصم وطعنة غائرة في مَقتل، لكنه لا يستطيع حسم المعركة؛ فهذا دور سلاح المشاة والمدفعية وغيرهما من الأسلحة التي تأتي في مرحلة تالية لجهود سلاح الطيران، وتقوم بالإجهاز على بقايا الخصم وتطهّر الأرض من آثاره. إسرائيل مثلاً في عدوانها الأخير على لبنان سنة 2006 وضعت هدفًا رئيسيّا للعدوان وهو القضاء على حزب الله، وهي تمتلك سلاح طيران لا يمكن أن تقارَن به قدراتُ حزب الله أبدًا، ولو مجرد مقارنة!! ومع ذلك لم تستطع إسرائيل تحقيق هدفها الرئيسي الذي أعلنته بشكل واضح؛ لأنها لم تتمكّن من أن تمضي على الأرض باتجاه حزب الله إلا في أمتار معدودة.. ورغم سيطرتها الكاملة على الجو بسلاح طيرانها، إلا أنها عجزت عن السيطرة عما تحت الطيران من مواقع!! كذلك الثورة، يمكنها أن توجّه ضربة قاسية مؤلمة للنظام القائم الفاسد الذي فقد الشرعية، وتُسقط رأسه وأجزاءً كبيرة من جسده العفن.. لكن القضاء تمامًا على آثار هذا النظام ثم بناء نظام آخر بديل، لا يتحقق بنفس الأساليب الثورية التي أسقطت النظام، إلا في الثورات الدموية لا السلمية.. ولذلك يبقى الرهان على "وعي الجماهير"، وعلى "الوسائل السلمية" كالانتخابات.. والدليل أنه لما تأخر صدور قانون العزل السياسي، ثم صدر على الوجه المعيب كما هو معروف؛ نجحت الجماهير الواعية في إسقاط الفلول دون حاجة إلى قانون فعّال أو إجراءات ثورية استثنائية.. وهذا درس لمن يعتبر!! وهنا يتضح الفرق الكبير بين "الثورة" و"الإصلاح": الثورة هي ألف باء التغيير، لكن الإصلاح هو بقية الحروف والطريق.. الثورة تعطي إشارة البدء، والإصلاح يستكمل الخطوات.. الثورة هي حشد الطاقات في أقصى درجة ممكنة، هي نقطة تكون الشعوب عندها "على الآخر"، أما الإصلاح فهو السير بمعدل طبيعي أو متسارع لكن دون إرهاق.. الثورة هي الاستثناء، والإصلاح هو القاعدة.. ليس هذا كلامًا نظريًا، بل هو أساس المشكلة القائمة الآن في مصر بين من يتمسك بشرعية الميادين والمظاهرات ولا يرى غيرهما من الأساليب والوسائل، وبين من سلك طريق البرلمان والعمل الحزبي والمؤسسي. شباب الثورة على وجه الخصوص -ولا أحد ينكر أنه صاحب فضل كبير في "إشعال" الثورة- يرى أن الثورة لم تنجح ولم تحقق معظم أهدافها، ويعتقد أن الطريق الوحيد لإنجاز ذلك هو البقاء في الميادين والضغط من خلال المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات، وبعضهم -مع الأسف- يُلوّح بالوسائل غير السلمية!! وزاد من هذا الاعتقاد لدى شباب الثورة أن شباب الثورة لم ينجح في إحراز مكاسب معقولة خلال انتخابات مجلس الشعب (مع أن كثيرين منهم دعوا إلى مقاطعتها، بل قاطعوها بالفعل ثم يقولون الآن إنهم لم يحصلوا على مقاعد بعدد كبير!!) هذا التصور الذي يريد البعض أن يكرره في الذكرى الأولى للثورة يضعنا في مأزق كبير وخطير، لسببين: الأول: لأنه يبدو كأنه -بل هو كذلك بالفعل- ضد الإرادة الشعبية (البرلمان) التي عبّرت عن نفسها من خلال الانتخابات. الثاني: أن البعض -من شباب الثورة وأيضًا من بقايا النظام السابق- يستخدم هذا التصور لتمرير أهدافه غير المشروعة بإحداث ارتباك في مسار الثورة، والقيام بأعمال عنف، وكأنه يحاول أن يلغي السنة الماضية من الثورة ويعيدنا إلى المربع صفر، وليس المربع رقم واحد!! إذن نسأل سؤالاً: هل تحققت كل أهداف الثورة، أم إن شباب الثورة هؤلاء لهم حق فيما يقولون؟! طبعًا لا أحد يمكن أن يزعم أن أهداف الثورة كلها تحققت، ولا حتى نصفها!! إذن.. ما الحل؟! هنا مربط الفرس كما يقال، فإذا كانت أهداف الثورة ما زال منها الكثير لم يتحقق، فإن الاختلاف هو حول كيفية تحقيقها.. هل يكون بثورة ثانية، أم بالالتزام بخريطة الشعب التي حدّدها، والضغط في هذا الاتجاه، حتى لو استغرقت هذه الخريطة وقتًا كبيرًا؟! أنا أرى أن الحل الثاني أسلم؛ لأنه حلّ يقوم على اختيار الشعب، وليس على فرض تصوّر معين على الشعب. يا سيدي الفاضل، الشعب فضّل مسارًا معينًا.. هو حر.. لا تفرض عليه رأيك، حتى لو كنت تعتقد أن رأيك هو الأفضل والذي يختصر الطريق.. وإلا كنا بصدد مشروع ديكتاتورية أخرى.. نعوذ بالله منها!! أصحاب الرأي الأول يتجاهلون أن شعبنا -مثل شعوب كثيرة- هادئ ويفضّل أن يقطع طريق الإصلاح بطريقة متدرجة متأنية، والدليل هو أن ثورته كانت سلمية لا دموية، وأنه رفض المحاكمات الثورية وارتضى محاكمات طبيعية حتى للقتلة والفاسدين. ودليل آخر، أن الذين يريدون أن يصعدوا سلّم التغيير في قفزة واحدة -حتى لو كانت غير مأمونة العواقب- لم ينجحوا في اكتساب أرضية شعبية تمكنهم من تحقيق مشروعهم، مما يدل على أنهم مفصلون عن القاعدة العريضة "الهادئة المتدرِّجة"، ويريدون أن يخالفوا طبيعة الشعب. الحل في رأيي، أن نواصل الضغط "السلمي" لاستكمال الثورة من خلال "الميدان" و"البرلمان" معًا.. في أداء متكامل لا متناقض.. وليس من خلال ثورة أخرى.. الشعب مش فاضي لينا علشان نعمل كل حبة ثورة!! وإلا سنصل لمرحلة "حرجة": لا هي ثورة ولا هي إصلاح.. يعني باختصار سنصل إما إلى الفوضى أو الديكتاتورية!! والديكتاتورية هنا، ليست فقط ديكتاتورية العسكريين الذين بيدهم حكم البلد الآن، بل ديكتاتورية بعض الثوار كما يبدو من تصريحات ومواقف البعض منهم!!