خلينا نحسبها: السؤال (2) معضلة كبيرة هي، أن تعمل على تقويم سلوك شعب كامل، هو أكبر شعوب المنطقة عدداً وانتشاراً، وتحافظ على مساحة الحرية والديمقراطية في الوقت ذاته... وعندما تحاول أن تحسب هذا الموقف، ستجد أن أمامك حلّين، لا ثالث لهما.. إما أن تفعل هذا بنظام خطوة بخطوة.. أو بالقوة.. والنظام الأول هو نظام طويل المدى، ولكنه مضمون، بنسبة تقترب من المائة في المائة، حيث ستبدأ بإصلاح منظومة التعليم، وإضافة مادة للمبادئ الاجتماعية والأخلاقية، على نحو علمي مدروس، بحيث ينشأ جيل جديد مشبّع بالمبادئ والسمات الحسنة، وقادر على التفكير والابتكار والتنمية في الوقت ذاته.. وبالإضافة إلى هذا، فأنت تحتاج إلى إصلاح منظومة الإعلام، بحيث تكون برامجه هادفة، صادقة، تنقل المثل العليا للمجتمع، وتلقي الضوء على النماذج الناجحة، وبشكل إيجابي ومتطوّر، بحيث تبث في الشعب قيمة العمل والكفاح الشريف، وتنزع منه فكرة السعي وراء الكسب السريع، أياً كانت مصادره.. وعليك أن تعيد عيد العلم، الذي يحتفي بكل ناجح ومتفوّق، بحيث تصير الغلبة في المجتمع لمن يجتهد ويكافح، دون وساطة ولا محسوبية.. ولا بد، وهو الأهم، أن تحرص كل الحرص على سيادة القانون، ومساواة الجميع أمامه، بحيث تنشأ بهذا منظومة قوية؛ لمحاربة ومكافحة وكشف الفساد، بكل صوره وألوانه، مع عقاب رادع وسريع لكل فاسد.. وهذا يستلزم جهازا رقابيا قويا.. وجهازا أمنيا أقوى.. وصبرا مخطّطا، يسير على منهج ثابت، لا يتغيّر بتغيّر القائمين عليه.. وهذه كلها هي النقاط الأساسية فحسب.. وهذا يحتاج ما بين عشرة إلى عشرين عاماً من التخطيط، والتنفيذ والعناية، والحكمة... وعشرون عاماً في عمر الدول والشعوب هي فترة قصيرة للغاية. لو أننا نظرنا إلى إسرائيل، مشكلة الشرق الأوسط الأولى، والتي كانت، منذ نيف وسبعين عاماً، لا وجود لها، وفي أقل من قرن من الزمان، صارت قوة عسكرية، وشوكة بغيضة، في قلب العرب كلهم.. عمر إسرائيل إذن لم يكمل أربع عشرينات من الأعوام.. وهذا يعني أن عشرين عاماً ليست كثيرة.. ولكنها يمكن أن تكون مثمرة.. وإلى الأبد... هذا بالنسبة لأسلوب الخطوة خطوة.. ولاحتمالات نتائجه.. أما أسلوب القوة، فهو قادر -مع شيء من الجهد- على إحداث تغيير سريع في المجتمع.. على حساب المجتمع نفسه.. وتجربة الشعوب التي سبقتنا تثبت هذا.. ففي الاتحاد السوفييتي مثلاً، وعقب الثورة البلشفية، في أكتوبر 1917، قرّر أصحاب المبادئ الشيوعية فرض نظريتهم على المجتمع بالقوة.. وبسرعة.. وهنا كان من المحتم إزاحة فكرة الحرية والديمقراطية جانباً، ووضع منظومة "قهرية"، تجبر الشعب على اتّباع النظام الجديد.. وفي البداية أصرّ الشيوعيون الذين حكموا (روسيا) بعد ثورتها على إلغاء الشكل الأسري، وإجبار الجميع على تناول طعامهم في مكان واحد كبير، في كل حي، بحيث يقدّم لهم جميعاً طعام واحد، بغض النظر عن حالتهم الاجتماعية.. وبعدها بدأت حملة مصادرة الممتلكات، بحجة أنها تزيد عن احتياجات الأفراد، من منطلق المبدأ البلشفي، الذي يحددّ نصاً أنه "كل يعمل حسب طاقته، ويأخذ فقط بقدر حاجته".. وهذا بهدف مساواة الجميع بعضهم بعضا.. ونشر المبادئ الجديدة.. ولكن هذا كان يتعارض مع الطبيعة البشرية، التي تدفع كل فرد إلى محاولة التطور والنمو، بدافع الطموح الطبيعي في أعماقه.. ويتعارض أيضا مع أبسط قواعد الحرية.. والديمقراطية.. وحقوق الإنسان أيضا.. ولهذا، ومن منطلق الحرية، التي قامت من أجلها الثورة، رفض الكثيرون هذا النوع من القهر الإنساني بشدة.. ولأن النظام كان يسعى إلى تحقيق هدفه فوراً، ودون صبر أو انتظار، فقد ألقى كل حديث عن الحرية والديمقراطية خلف ظهره، وبدأ حملة مسعورة، للقضاء على معارضيه ومخالفيه.. وسقط الآلاف في معسكرات الاعتقال.. حيث عُذّبوا.. وأهينوا.. وقُتلوا أحياناً.. وبأسلوب منهجي تم كتم كل الأصوات المعارضة، وقهر كل رأي وفكر مخالف، وإطلاق الأمن على الشعب، بصلاحيات غير مسبوقة.. وصار الحديث -مجرّد الحديث- عن أي شيء يخالف الفكر الشيوعي جريمة لا تغتفر، ورذيلة تستوجب العقاب.. ومع حمامات الدم، وقطارات المعتقلين، وصرخات المعذبين، ودموع أرامل ويتامى المعارضين، اضطر الشعب الروسي للخضوع.. وعاش أكثر من ثمانين عاماً تحت نير قهر ما بعده قهر.. ولم يؤمن بالمبادئ الشيوعية أبداً.. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي أخيراً، في بداية تسعينيات القرن العشرين، أسفر الشعب الروسي عن كراهية وبغض للشيوعية.. وفشلت كل محاولات القمع والتخويف والترهيب، في زرع تلك المبادئ فيه.. هذا لأن الخوف والحب لا يجتمعان أبداً.. مهما فعلت.. وفي أوروبا العصور الوسطى، حاولت الكنيسة فرض الدين بالقوة، وفي سبيل ذلك، شهدت أوروبا عصوراً من القهر والذل والاستعباد.. وباسم الدين، قُتل الآلاف وعُذّبوا.. وأريقت أنهار من الدم.. وطوال ما يقرب من ثلاثة قرون، تواصلت محاولة فرض الدين بالقوة.. ثم جاء من يرفض هذا.. وبشدة.. ومع الرفض، والهزائم المتوالية، سقطت سلطة الكنيسة.. ولم يرفضها الناس فحسب.. بل رفضوا الدين كله.. وعقب الحرب العالمية الثانية بالتحديد برز هذا على نحو واضح.. وانصرف الشباب الجديد عن الكنيسة.. وعن الدين.. ليس جميعهم بالتأكيد، ولكن فئة كبيرة منهم.. هذا لأن سنة الكون تخضع لمبدأ قوي، لم يحدث أن أثبت فشله عبر التاريخ كله.. لكل فعل ردّ فعل مساو له في القوة.. ومضاد له في الاتجاه.. وعندما تحاول فرض شيء -أي شيء- بالقوة، فإنك تساعد بهذا على ميلاد تيار مضاد، سواء معلن أو خفي، مساو لك في القوة، ومضاد لك في الفكر والاتجاه.. وهذا يعود بنا إلى السؤال.. هل يمكنك أن تقوّم شعباً بالقوة، وتحافظ على أبسط قواعد الحرية والديمقراطية والعدالة، ليس من وجهة نظرك وحدها، ولكن من المنظور العام؟! هل؟! ولهذا حديث مستمر،،،